منتديات ايجي نت


دعم أهلنا في فلسطين

> >


منتدى ايجى نت الاسلامى .: منتدى خاص بالمواضيع الاسلامية وعلوم القرأن الكريم والمحاضرات والخطب الاسلامية :.

  #1  
02-05-2014, 08:54 AM
فتح مصر

لما انتهى فتح المسلمين لبلاد الشام، وانتهى عمرو بن العاص من فتح فلسطين، استأذن عمرو بن العاص من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في السير إلى مصر للفتح، فوافق عمر وسيّره إليها، ثم أمده بالزبير بن العوام ومعه بسر ابن أرطأة وخارجة بن حذافة، وعمير بن وهب الجمحي، فالتقيا عند باب مصر، ولقيهم أبو مريم ومعه الأسقف أبو مريام وقد بعثه المقوقس من الإسكندرية، فدعاهم عمرو بن العاص إلى الإِسلام أو الجزية أو القتال، وأمهلهم ثلاثة أيام فطلبوا منه أن يزيد المدة فزادها لهم يوماً واحداً، ثم نشب القتال، فهزم البيزنطيون وقتل منهم عدد كبير، منهم الأرطبون الذي فر من بلاد الشام إلى مصر، والذي أجبر أهل مصر على المقاومة، وحاصر المسلمون عين شمس، وارتقى الزبير بن العوام السور، فلما أحس السكان بذلك انطلقوا باتجاه عمرو على الباب الآخر، إلا أن الزبير كان قد اخترق البلد عنوة ووصل إلى الباب الذي عليه عمرو، فصالحوا عمراً وأمضى الزبير الصلح، وقبل أهل مصر كلهم الصلح، إذ كان قد وجه عبد الله بن حذافة إلى عين شمس فغلب على أرضها وصالح أهل قراها على مثل صلح الفسطاط.
ثم أرسل عمرو جيشاً إلى الإسكندرية حيث يقيم المقوقس، وحاصر الجيش المدينة، واضطر المقوقس إلى أن يصالح المسلمين على أداء الجزية واستخلف عمرو بن العاص عليها عبد الله بن حذافة. وانشئت مدينة الفسطاط مكان خيمة عمرو حيث بني المسجد الذي ينسب إليه الآن. وأقيمت البيوت حوله.
وأرسل عمرو قوة إلى الصعيد بإمرة عبد الله سعد بن أبي سرح بناءً على أوامر الخليفة ففتحها، وكان الوالي عليها كما أرسل خارجة بن حذافة إلى الفيوم وما حولها ففتحها وصالح أهلها، وأرسل عمير بن وهب الجمحي إلى دمياط وتنيس وما حولهما فصالح أهل تلك الجهات.
ثم سار عمرو بن العاص إلى الغرب ففتح برقة وصالح أهلها، وأرسل عقبة بن نافع ففتح (زويلة) واتجه نحو بلاد النوبة، ثم انطلق عمرو إلى طرابلس الغرب ففتحها بعد حصار دام شهراً، كما فتح (صبراته) و(شروس) ومنعه عمر بن الخطاب أن يتقدم أكثر من ذلك إلى جهة الغرب.
  #2  
02-05-2014, 12:51 PM
رد: فتح مصر

موضوع اكثر من رائع واسمح لى ان اضيف موجز سريع عن فتح مصر
مصر قبل الفتح الإسلامي
قبل الحديث عن الفتح الإسلامي لمصر، لا بد من الوقوف أولاً على أحوال مصر قبل ذلك الفتح، سواء الأحوال السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية؛ وذلك ليتسنى لنا الوقوف على طبيعة الفتوحات الإسلامية وماهيتها بالمقارنة بغيرها من الحروب وأنواع الاحتلال، وفي الوقت ذاته إبراز العوامل التي من شأنها أن تؤثر في حركة الفتح سلبًا أو إيجابًا.
حملة قمبيز بن قورش:
كان غزو "قمبيز" لمصر عام (525 ق.م) من أسوأ الغزوات التي تعرضت لها البلاد؛ فقد أعد قمبيز لحملته كل ما استطاع، ومالأه اليهود مقابل أن صرح لهم ببناء معبدهم في أورشليم، فجعل من فلسطين قاعدة لتحركه نحو مصر، كما اكتسب بذلك ولاء اليهود الذين كانوا في جيش مصر، وانحاز إلى قمبيز رجل إغريقي يُدعى "فانيس"، كان قائدًا لفرقة مرتزقة في جيش مصر، ووشى فانيس بخطط المصريين لمقاومة الحملة، كما أفاد قمبيز بدلالته على مسالك الصحراء، وتسهيل الاتصال ببدو سيناء لإمداده بالماء والمئونة عبر الصحراء.
ومات فرعون مصر "أمازيس" وارتقى العرش بعده ابنه الشاب "أبسماتيك الثالث" قبيل الغزو مباشرة، وسار قمبيز بجيشه من غزة كما تحرك أسطوله من عكا، وكانت وجهته بيلوز "الفرما"، فهزم أبسماتيك الثالث، وكانت المعركة الثانية في "عين شمس" ثم الثالثة في "منف"، وهذا يعني أن قمبيز قد سلك الطريق نفسَه الذي سلكه عمرو بن العاص من بعدُ، وفي منف وقع أبسماتيك أسيرًا، وسقطت عاصمته في يد قمبيز.
كان قمبيز ملكًا همجيًّا أَذَلَّ المصريين إذلالاً مهينًا، فقد أجلس أبسماتيك وكبار رجال دولته عند مدخل المدينة، وألبس ابنته وبناتهم ملابس الإماء التي تكشف عن أجسادهن العارية، وأجبرهن على حمل جِرَارِ الماء والسير حفاة أمامه، وأمام الفرعون الأسير يسقين المنتصرين ويخدمنهم، وعندما دمعت عينا أبسماتيك أمر به قمبيز فقُتل!!
وأراد قمبيز أن يواصل غزواته إلى النوبة، ولكنه هُزِمَ فارتدَّ على أعقابه، ثم عاد فسيَّر جيشه من طيبة غربًا إلى الواحات الخارجة ومنها إلى سيوة، ولكن ريحًا عاتية ثارت على الصحراء، فدُفِنَ هذا الجيش كله ولم ينجُ منه أحد، ولا عثر عليه أحد بعد دخوله الصحراء! ولم يجد قمبيز بُدًّا من العودة إلى فارس، ولكنه مات في الطريق عام (522 ق.م)، وقيل إنه انتحر.
وفي عام (341 ق.م) وجه الفرس حملة أخرى إلى مصر برًّا وبحرًا، استطاعت أن تحتل مصر مرة أخرى، حتى غزاها الإسكندر الأكبر بعد تسع سنوات.
حملة الإسكندر الأكبر
لقد خرج الإسكندر بجيشه من اليونان متجهًا شرقًا حتى عَبَرَ الدردنيل، ثم اشتبك مع الفرس عند نهر (جرانيق) الذي يصب في بحر مرمرة وهزمهم سنة (334 ق.م)، واجتاز هضبة الأناضول إلى خليج الإسكندرونة، حيث هزم الفرس هزيمة ساحقة في إيسون، وَفَرَّ "دارا الثالث" ملك فارس إلى بابل، ثم سار الإسكندر جنوبًا ففتح بلاد الشام حتى وصل إلى مصر في جيش قوامه أربعون ألفًا، وأسطوله يبحر بحذائه في البحر، وسار من غزة إلى بيلوز "الفرما" ثم إلى منف، في الطريق نفسِه الذي سلكه قمبيز من قبل وعمرو بن العاص من بعدُ، واستسلم مازاكيس - الوالي الفارسي - للإسكندر دون مقاومة سنة (332 ق.م).
أنشأ الإسكندر مدينة الإسكندرية، ثم سار غربًا حتى سيوة وعاد إلى منف، ثم غادر مصر عام (331 ق. م) ليواصل فتوحاته، ولكنه توفي بالملاريا في 13 يونية عام (323 ق.م) وهو في الثالثة والثلاثين من عمره.
وبعد وفاته تمزقت إمبراطوريته، واقتسمها قادته من بعده، فكانت مصر من نصيب بطليموس بن لاجوس، وبدأ حكم البطالمة لمصر سنة (306 ق.م)، وتتابع حكامهم حتى هزيمة القائد الروماني أنطونيوس في معركة أكتيوم البحرية سنة (31 ق.م) على يد القائد الروماني المنافس "أوكتافيوس"، الذى عُرِفَ بعد ذلك بالملك "أغسطس".
وهكذا انتهت الفترة البطلمية التي عانى خلالها المصريون من التمايز الطبقي والمظالم المادية، وفساد الإدارة، حتى تفككت الدولة، وضَعُفَ الجيش والأسطول، وبدأ الحكم الروماني لمصر عام (30 ق.م) واستمر قرابة سبعة قرون، فكان أطول وأسوأ فترات تاريخها.
الأحوال الاقتصادية
لقد أبقى الرومان في مصر حامية رومانية من ثلاثين ألفًا، عبارة عن ثلاث فرق، وقوات مساعدة، أخضعت البلاد وأخمدت ثوراتها، وأحالتها إلى مزرعة تمد الإمبراطورية الرومانية بالمال والغلال، لا سيما القمح، حتى إن الإمبراطور تيبريوس عَنَّفَ حاكمًا أرسل إليه حاصل الضرائب زائدًا عن النصاب السنوي وقال له: "إنه إنما وَلِيَ على مصر ليجزَّ وبرها لا ليسلخ جلدها"!
ولا خلاف في أن روما كانت تنظر إلى مصر على أنها بقرة حلوب دأبت على استنزاف لبنها، فلم يكن كل قياصرة روما مثل تيبريوس، ومع ذلك كان من رأيه أن يجز وبرها، وأصبحت مصر مستعمرة بمعنى الكلمة، وعاملت روما شعب مصر على أنه شعب مغلوب مقهور، ومنحت اليونانيين واليهود امتيازات خاصة في مصر، وحظر على المصريين حمل السلاح وصارت حيازته عقوبتها الإعدام، واتسم الحكم الروماني بفداحة الضرائب والعسف في الجباية، وعاش المصريون قرونًا ضنكًا، حتى خربت البلاد اقتصاديًّا واجتماعيًّا.
وقد كتب المؤرخ اليهودي فيلون philon فقال: إن جباة الضرائب كانوا يستولون على جثة العاجزين عن سداد الضرائب حتى يُكرِهوا ذوي قرباه على دفع الضرائب المتأخرة عليه؛ استنقاذًا لجثته، كما ذكر أن الزوجات والأطفال وغيرهم من الأقرباء كانوا يحشرون إلى السجون، ويُصَبُّ عليهم التعذيب حتى يصل الرومان إلى المفلس الهارب، فكان يحدث أن يهرب الأهالي من مدن برمتها!
وكانت جباية الضرائب تُطْرَحُ في مزاد عام يرسو على من يلتزم بتوريد أكثر، ثم تطلق أيديهم في تحصيل ما يشاءون بأبشع الوسائل، حتى تناقص عدد السكان، وظهرت المسئولية الجماعية بِمُضيِّ الزمن، فإذا اختفي أحد دافعي الضرائب وقعت مسئولية سدادها على زملائه، ووقع واجب فلاحة أرضه على الآخرين، وبلغ الحال أن امتنع الملتزمون عن التقدم لهذا العمل، فكانت السلطة تُكرههم على ذلك، وصار أولئك الذين كان من واجبهم ترشيح هؤلاء ضامنين مسئولين عما ينشأ من عجز!!
وهكذا عاشت مصر اقتصاديًّا، وهذه كانت صورتها لمدة سبعة قرون منذ انتحار كليوباترا عام (30 ق.م) حتى أنقذها الفتح الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص (640 - 642م).
وقد كان من الطبيعي أن تحدث ثورات على هذا الوضع، فقد نشبت ثورة في طيبة بعد بضعة شهور من الغزو الروماني، ونكَّل الثوار بجباة الضرائب الرومان، وزحف إليهم الحاكم الروماني جالوس من الإسكندرية حتى أسوان وما وراء الشلال الأول، فأخمد الثورة ونكَّل بالثائرين، وتكررت الثورات في الصعيد، وفي شمال شرق الدلتا وكان الرومان يخمدونها.
ويبدو أن الأمر كان صعبًا على الرومان في بعض الأحيان، فعقدوا صلحًا مع النوبيين، أعفوهم فيه من دفع الجزية، وأقام الرومان حصونًا في النوبة: في الدكة وكلابشة وقرطاسة وأبريم؛ لتعينهم على أمرهم، كما جَدَّدَ الإمبراطور تراجان (98 - 117م) بناء حصن بابليون ليكون المقر الرئيسي للحامية الرومانية في داخل البلاد.
وقد اتخذ الرومان مصر شاة حلوبًا يريدون أن يستنزفوا مواردها ويمتصوا دمها، يقول ألفرد: "إن الروم كانوا يجبون من مصر جزية على النفوس وضرائب أخرى كثيرة العدد... مما لا شك فيه أن ضرائب الروم كانت فوق الطاقة، وكانت تجري بين الناس على غير عدل". ويقول مؤلفو (تاريخ العالم للمؤرخين): "إن مصر كانت تضيف إلى مالية الدولة البيزنطية مجموعًا كبيرًا من حاصلها ومنتجاتها، وكانت طبقات الفلاحة المصرية - مع حرمانها من كل قوة سياسية ومن كل نفوذ -مرغمةً على أداء الخراج للدولة الرومية، كَكِرَاء الأرض فضلاً عن الضرائب، وكانت ثروة مصر في هذا العهد إلى الانتقاص والانحطاط".
الأحوال الدينية
/705_image003.jpg[/img]تسربت المسيحية إلى مصر في وقت مبكر، وأخذت في الانتشار تدريجيًّا في أنحاء مصر منذ القرن الثاني الميلادي، فألفَى الناس فيها زادًا روحيًّا، يستمدون منه القوة والقدرة على مقاومة ظلم أباطرة الرومان.
ولا شك أن الأهمية المتزايدة لإقليم مصر هي التي دفعت الإمبراطورية للوقوف في وجه المسيحية، فلعلها - إلى جانب مخالفتها لدين الدولة الرسمي - تدفع الناس لمقاومة الظلم، فما كان من الحكام بها إلا أن زادوا من حجم الاضطهادات في القرن الثالث الميلادي، وبالتحديد في منتصفه، حين قام ديكيوس الروماني بمحاولة إبادة المسيحيين على مستوى الإمبراطورية كلها بما فيها مصر، مما أدى إلى نوع من الانقسام بين المصريين، ما بين متحمل للاضطهاد وثابت على الحق مهما كلفه ذلك، وما بين متظاهر بالوثنية؛ نجاة بنفسه من الموت المحقق!!
وقد بلغت المظالم وحركة الاضطهاد ذروتها في عهد دقلديانوس (284 - 305م) الذي تَأَبَّى المسيحيون عليه، ورفضوا تقديم القرابين لآلهته، فما كان منه إلا أن مَثَّل بهم، وارتكب في حقهم أفظع الجرائم حتى لقد أطلق على عصره "عصر الشهداء"؛ بسبب آلاف الأرواح التي أزهقت من قبط مصر بسبب اعتناقهم المسيحية، وتمسكه بفتنتهم عن دينهم. وما زالت الكنيسة القبطية حتى الآن تستخدم تقويمها القبطي بدءًا بسنة (284م)، التي اعتلى فيها عرش الإمبراطورية، رغم أن اضطهاده الفعلي بدأ قرب
أواخر حكمه سنة (299م).
ويذكر المقريزي أن دقلديانوس هذا كان من غير بيت الملك، فلما ملك تجبر، وامتد ملكه إلى مدائن الأكاسرة ومدينة بابل، واستخلف ابنه على مملكة روما، واتخذ تخت ملكه بمدينة أنطاكية، وجعل لنفسه بلاد الشام ومصر إلى أقصى المغرب، فلما كان في السنة التاسعة عشرة من ملكه -وقيل الثانية عشرة– خالف عليه أهل مصر والإسكندرية، فبعث إليهم، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وأوقع بالنصارى؛ فاستباح دماءهم، وغلَّق كنائسهم، وحمل الناس على عبادة الأصنام، وبالغ في الإسراف في قتل النصارى.
وقد أقام ملكًا إحدى وعشرين سنة، وهلك بعد علل صعبة؛ دَوَّدَ منها بدنه وسقطت أسنانه، وهو آخر مَن عَبَدَ الأصنام من ملوك الروم، وكل من ملك بعده فإنما كان على دين النصرانية، ويقال: إن رجلاً ثار بمصر يقال له "أجلة" وخرج عن طاعة الروم، فسار إليه دقلديانوس وحاصر الإسكندرية -دار الملك يومئذ- ثمانية أشهر، حتى أخذ "أجلة" وقتله، وعَمَّ أرض مصر كلها بالسبي والقتل.
وشأن جميع أفراد هذا النوع من أساطين الاستبداد في تاريخ العالم، من أمثال: فرعون موسى، ونمروذ إبراهيم، وستالين، وهتلر وغيرهم، نجد بكل أسًى من يلتمس لهم المعاذير!!

فتراهم يقولون: إن دقلديانوس كان يرغب في توحيد الإمبراطورية، وكان الولاء العام لدين الدولة الرسمي هو الرباط الذى يربط أجزاءها، ولكن المسيحيين رفضوا هذه المشاركة في الوثنية، وكان طبيعيًّا –هكذا!- أن يُدمجوا أو يستأصلوا، ومع ذلك فيبدو واضحًا أن الاضطهاد الأكبر لم يحدث بناء على رغبة دقلديانوس، وإنما أمر به وهو كاره له أشد الكراهية، وتحت ضغط شديد من القيصر جاليريوس. الاعتذار المرفوض نفسه الذي يتعلق به كل مستبد تافه، تورط في مثل هذه الهمجية من وحوش التعذيب في جميع العصور.
وبالرغم من ذلك يقول "هـ آيدرس بل": إنه لمن الخطأ أن نعتقد أن الاضطهاد كان حملة متصلة، وأن الحكومة الرومانية اضطهدت المسيحيين بسبب عقائدهم الدينية بالذات، فقد كانت متسامحة كل التسامح في المسائل الدينية، ولم تحاول أن تستأصل شأفة أي عبادة جديدة إلا بحجة منافاتها للمبادئ الأخلاقية، أو تعارضها مع السياسة العامة، وكان المسيحيون في نظر السلطات مواطنين أشرارًا، وعنصرًا خطرًا في المجتمع؛ لأنهم كانوا يترفعون عن ممارسة شعائر الديانة الرسمية، ولا يقدسون صور الأباطرة، غير أنه كان هناك دائمًا بين الوثنيين من كان مستعدًّا للتستر على أصدقائهم المسيحيين، كما كان حكام الولايات يحجمون أشد الإحجام في معظم الأحيان عن تطبيق قانون العقوبات عليهم، ولم يكن الاضطهاد عامًّا إلا عند حدوث كارثة قومية أو هياج شعبي، وكما قال ترتو ليانوس: فإذا فاض نهر التيبر على الجسور، أو غاض ماء النيل فلم يبلغ الحقول، أو أمسكت السماء عن المطر، أو زلزلت الأرض، أو حدثت مجاعة أو انتشر وباء تعالت الصيحات على الفور: "اقذفوا بالمسيحيين إلى الأسود". وفي تلك الأوقات كان بين الناس من يعوزهم الجَلَد، وكان كثير منهم يصمدون للمحنة.
وللاقتناع بصورة الاضطهاد الذي طال مداه وتجاوب من كانوا ينفذونه أو عدم تجاوبهم، نستطيع أن نرى صورة واضحة ومجسمة لذلك إذا نظرنا إلى الاضطهادات المعاصرة، وهي تكاد لا تختلف، وقد صدر في الموضوع عديد من الكتب التفصيلية على أية حال.
بعد ذلك بعشر سنوات اتخذ الإمبراطور قسطنطين بيزنطة عاصمة للإمبراطورية الرومانية الشرقية، وسميت القسطنطينية، وأعلن اعتناقه المسيحية عام (324م). يقول هـ أيدرس بل: "في وسعنا أن نشعر أن اعتناق الإمبراطور المسيحية لم يكن خيرًا كله، فلم يعد اعتناق هذا الدين يعني مجرد الأمان، وإنما أصبح بدعة العصر، وأسرع كثير من منتهزي الفرص إلى اعتناق الدين الجديد".
ولقد كانت مصر في عام (300م) بلدًا وثنيًّا في جوهره، رغم وجود عدد كبير من المسيحيين، ولكنه في عام (330م) صار بلدًا يدين معظم أهله بالمسيحية. وفي هذا يقول هـ .آيدرس بل: "... ولا شكَّ أن بعض هذا الانقلاب كان يرجع إلى توقف الاضطهاد لا إلى استمراره، فقد حدث في 30 ابريل (311م) أن أصدر جاليريوس - وكان يعاني مرضًا كريهًا - قرارًا بوقف الاضطهاد، ملتمسًا من المسيحيين أن يُصلُّوا من أجله، ولقد استجابوا له ولكن دون جدوى، إذ قضى نحبه بعد ذلك بأيام قلائل".
اضطهاد المسيحيين قبل الانحسار الروماني والبيزنطي:
تطفح المصادر التاريخية التي تتعرض لهذه الفترة (ما بين ظهور المسيحية حتى انحسار الوجود الروماني والبيزنطي عن منطقة الشرق الأوسط) في مرارة بالأخبار الكثيرة عن هذا الاضطهاد؛ يقول المؤرخ القبطي زكي شنودة: "حين جلس مكسيميانوس على العرش سنة 235م اضطهد المسيحيين اضطهادًا شديدًا وخاصة في مصر، فاستشهد كثيرون في عهده، واضطر كثيرون إلى الفرار من وجهه، ومنهم البابا ياروكلاس بطريرك الإسكندرية".
وعن عهد ديسيوس الذى جلس على العرش سنة 249م، يقول القديس ديونيسيوس: "إن الخوف عَمَّ الجميع، وقد فُصِلَ المسيحيون جميعًا من خدمة الحكومة مهما كانت كفاءتهم أو مقدرتهم في عملهم، وكان الوثنيون يَشُون بالمسيحيين ويرشدون عنهم، فيُؤتى بهم في الحال ويطلب إليهم تقديم الذبائح للأوثان، ومن أولئك الأتقياء رجل اسمه يوليانوس كان مُقعَدًا؛ فحمله رجلان إلى دار الحكم وطلبا إليه أن ينكر إيمانه فرفض، وعندئذٍ حملوه على جمل وطافوا به في شوارع الإسكندرية وهم يجلدونه بالسياط، ثم أخيرًا طرحوه في لهيب النار فظل يحترق حتى مات".
وينقل لنا المقريزي في كتابه القيم "المواعظ والاعتبار" صورًا من المعاناة التي عاشها قبط مصر أثناء حكم بعض قياصرة الروم فيقول: "وفي أيام الملك أنديانوس قيصر أصاب النصارى منه بلاء كثير، وقتل منهم جماعة كثيرة، واستعبد باقيهم، فنزل بهم بلاء لا يوصف في العبودية حتى رحمهم الوزراء وأكابر الروم وشفعوا فيهم، فمَنَّ عليهم قيصر وأعتقهم.
واشتد الأمر على النصارى في أيام الملك أريدويانوس وقتل منهم خلائق لا يُحصَى عددهم، وقدم مصر فأفنى من بها من النصارى، وخرَّب ما بُنِيَ في مدينة القدس من كنيسة النصارى، ومنعهم من التردد إليها فلم يتجاسر نصراني أن يدنو من القدس، واشتد الملك أوليانوس قيصر على النصارى، وقتل منهم خلقًا كثيرًا.
وأثار الملك سوريانوس قيصر على النصارى بلاءً كبيرًا في جميع مملكته، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، وقدم مصر وقتل جميع من فيها من النصارى، وهدم كنائسهم وبنى بالإسكندرية هيكلاً لأصنامه.
ولقي النصارى من الملك مكسيموس قيصر شدة عظيمة وقتل منهم خلقًا كثيرًا، كما لقي النصارى من الملك داقيوس قيصر شدة؛ فإنه أمرهم أن يسجدوا لأصنامه، فأبوا من السجود لها فقتلهم أبرح قتلة.
واشتد الأمر على النصارى في أيام الملك طيباريوس قيصر، وقتل منهم خلقًا كثيرًا، فلما كانت أيام دقلديانوس قيصر خالف عليه أهل مصر والإسكندرية فقتل منهم خلقًا كثيرًا، وكتب بغلق كنائس النصارى، وأمر بعبادة الأصنام، وقتل من امتنع منها، فارتد خلائق كثيرة جدًّا.
وفي عهد دقلديانوس قتل بطرك الإسكندرية بطرس بالسيف ومعه امرأته وابنتاه لامتناعهم من السجود للأصنام، وبدقلديانوس هذا يؤرخ قبط مصر إلى يومنا هذا. ثم قام بعده مكسيمانوس قيصر فاشتد على النصارى وقتل منهم خلقًا كثيرًا، حتى كانت القتلى منهم تحمل على العجل (العربات) وترمى في البحر.
ولم تلبث المسيحية أن لقيت قبولاً في عهد الإمبراطور قسطنطين الأول (323 – 337م) لا سيما بعد أن اعترف بها دينًا مسموحًا به ضمن الديانات الأخرى في الدولة الرومانية بموجب مرسوم ميلان الشهير في عام 343م، ثم أصبحت الدين الرسمي الوحيد للدولة في عهد الإمبراطور تيودوسيوس الأول (379 - 395م) الذي أصدر مرسومًا بذلك عام 380م، كما أصدر مرسومين في عامي 392 و 394م حرم بموجبها العبادات الوثنية".
النزاع والصراع بين المسيحيين حول طبيعة المسيح:
لم تنعم مصر المسيحية طويلاً بهذا النصر الذي أحرزه الدين المسيحي إذ ثار الجدل والنزاع منذ أيام قسطنطين الأول بين النصارى حول صفات المسيح، وقد تدخل قسطنطين الأول في هذه النزاعات الدينية البحتة، وعقد مجمع نيقية في عام 325م من أجل ذلك، وناقش هذا المجمع مذهب أريوس الإسكندري الذي أنكر صفة الشبه بين الأب والابن، وعَدَّ أن ابن الله ليس إلا مخلوقًا فأنكر بذلك ألوهية المسيح، وتقرر بطلان مذهبه، والإعلان عن أن الابن من جوهر الأب نفسه، واتخذ معظم الأباطرة الذين جاءوا بعد قسطنطين الأول موقفًا عدائيًّا من معتقدات النصارى في مصر؛ مما أدى إلى احتدام الجدل والنزاع الديني بين كنيستي الإسكندرية والقسطنطينية.
وقد بلغ أقصاه في منتصف القرن الخامس الميلادي، حينما اختلفت الكنيستان حول طبيعة المسيح، فاعتقدت الكنيسة المصرية بأن للمسيح طبيعة إلهية واحدة – مونوفيزيت - وتبنَّت كنيسة القسطنطينية القول بثنائية الطبيعة المحددة في مجمع خلقيدونية، ورأت أن في المسيح طبيعة بشرية وطبيعة إلهية، وهو المذهب الرسمي للإمبراطور البيزنطي. وقد عقد الإمبراطور مرقيان (4550 - 457م) مجمعًا دينيًّا في خلقيدونية في عام 451م من أجل وضع حد لهذا النزاع، تقرر فيه تحديد العقيدة الدينية المتعلقة بطبيعتي المسيح، وأنكر المجتمعون نحلة المونوفيزيتيين، وكفَّروا من قال بأن للمسيح طبيعة واحدة، وعَدُّوهم خارجين عن الدين الصحيح، كما تقرر حرمان ديسقوروس بطريرك الإسكندرية من الكنيسة.
والواضح أن ما أحرزته كنيسة القسطنطينية من انتصار على كنيسة الإسكندرية إنما يدل على أن دعوى الكنيسة الأولى بأن لها الصدارة بين الكنائس الشرقية ومساواتها بالكنيسة الغربية في روما قد أضحى واقعًا، واتخذت القضية في مصر شكلاً قوميًّا؛ إذ لم يقبل ديسقوروس ولا نصارى مصر ما أقره مجمع خلقيدونية، وأطلقوا على أنفسهم اسم الأرثوذكس أي أتباع الديانة الصحيحة، وعُرِفَتِ الكنيسة اليعقوبية نسبة إلى يعقوب البرادعي أسقف الرها المونوفيزيتي الذي زار مصر في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي ونظم كنيستها. أما أتباع كنيسة القسطنطينية فقد عُرِفُوا بعد الفتوحات الإسلامية باسم الملكانيين لاتباعهم مذهب الإمبراطور.
أضحى هذا النزاع بين الكنيستين مشكلة أقلقت المسئولين البيزنطيين، إذ إن المونوفيزيتية ليست إلا تعبيرًا عما بمصر وبلاد الشام من ميول انفصالية، وكانت الأداة التي اتخذها النصارى في هذه الجهات لمناهضة الحكم البيزنطي، فألغت كنيسة الإسكندرية استخدام اللغة اليونانية في طقوسها وشعائرها، واستخدمت بدلاً منها اللغة المصرية القبطية.
وما حدث من القلاقل الدينية في الإسكندرية وبيت المقدس وأنطاكية، وتَعَرُّض السكان في مصر لأشد أنواع الاضطهاد، وحرمان ديسقوروس وطرده من الكنيسة بسبب ما جرى من محاولة تنفيذ قرارات مجمع خلقيدونية بالقوة، إنما اتخذ صفة الثورات الوطنية العنيفة، ولم تقمعها السلطات إلا بعد أن أراقت دماء كثيرة.
وعندما استولى هرقل على الحكم، رأى أن ينقذ البلاد من الخلاف الديني، وأَمَّلَ المصريون بانتهاء عهود الاضطهادات وإراقة الدماء، ومن خلال البطريرك سرجيوس، الذي أدرك خطورة الموقف، لم يَأْلُ جهدًا في أن يعيد للكنيسة الهدوء والسكينة؛ ذلك أنه اعتقد بقدرته على التوفيق بين المذهبين الخلقيدوني والمونوفيزتي، فتبنى مذهب الفعل الواحد في المسيح، وهي وحدة تعرب عن وحدة الأقنوم (الشخص) لا عن وحدة الطبيعة، وأسند الرئاسة الدينية والسياسية في مصر للمقوقس أسقف فاسيس في بلاد القوقاز، وطلب منه أن يحمل أهل مصر على اعتناق المذهب الموحد، غير أنه لم يدرك أن مذهبه هذا قد ترفضه كنيسة مصر، وهذا ما حصل.
اضْطُرَّ المقوقس للضغط على المصريين وخَيَّرَهم بين أمرين: إما الدخول في مذهب هرقل الجديد، وإما الاضطهاد. وقبل أن يصل الحاكم الجديد إلى الإسكندرية في عام 631م هرب البطريرك القبطي بنيامين؛ توقعًا لما سيحل به وبطائفته من الاضطهاد من جرَّاء فرض المذهب الجديد.
كان هذا القرار نذيرًا أزعج الأقباط، وأفزع أهل الدين منهم، وخاصة أنه كان لهذا البطريرك مكانة محببة بين الأقباط في مصر، ولجأ المقوقس إلى البطش والتعذيب، وقاسى الأقباط جميع أنواع الشدائد فيما سُمِّيَ (الاضطهاد الأعظم) الذي استمر عشر سنوات، مما كان له أثر في سهولة فتح المسلمين لمصر. [راجع في ذلك د/ طقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين]
ويمكن حصر الخلاف المذهبي في هذين الاتجاهين:
1- اتجاه يمثله الملكانيون (حزب الإمبراطورية البيزنطية): شعارهم ازدواج طبيعة واحدة؛ فالألوهية طبيعة وحدها، والناسوت طبيعة وحده، ويلعن أصحاب هذا المذهب ويضطهدون كل من خالفهم الرأي.
2- اليعاقبة: وهم معظم أهل مصر من القبط، ويقولون بأن للمسيح طبيعة واحدة هي الألوهية، وفيها تكونت طبيعته البشرية، مثل: قطرة الخل تقع في بحر عميق لا قرار له، وكلا الفريقين كافر بالله، ضال عن الحق.
واحتدم الصراع بين أنصار مذهب اليعاقبة السائد في كثير من بلاد الإمبراطورية البيزنطية، وبين الإمبراطورية نفسها ذات المذهب المخالف، فعاقبت الإمبراطورية المخالفين لمذهبها كما أشرنا من قبل.
الأحوال السياسية
كانت مصر ولاية رومانية تابعة مباشرة لروما منذ عام 31 ق.م، حين استولى الرومان عليها وقضوا على حكم البطالسة فيها، واتخذها الإمبراطور أغسطس قيصر مخزنًا يمد روما بحاجتها من الغلال.
اتصف الحكم الروماني لمصر بالتعسف، فقد برع الرومان في ابتكار الوسائل التي تتيح لهم استغلال موارد البلاد، ففرضوا على المصريين نظمًا ضريبية متعسفة شملت الأشخاص والأشياء والصناعات والماشية والأراضي، فضاق المصريون بها ذَرْعًا، وقاموا بعدة ثورات ضد الحكم الروماني، لعل أشهرها تلك التي قامت في عهد الإمبراطور ماركوس أورليوس (161 – 180م)، وتعرف بحرب الزراع أو الحرب البوكولية، ولكن الرومان كانوا يقضون على هذه الثورات في كل مرة.
ظلت مصر تحت الحكم الروماني ما يزيد عن ستة قرون، وفي عام 395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين: شرقي وغربي، وعلى الرغم من استمرار فكرة الإمبراطورية، فقد حكم إمبراطوران معًا، واحد في الشرق وآخر في الغرب، وفي عام 476م سقط القسم الغربي في أيدي البرابرة الجرمان، في حين نجا القسم الشرقي الذي عُرِفَ بالإمبراطورية البيزنطية، وعاصمته القسطنطينية.
وكان شمالي إفريقية - ومن ضمنه مصر - تابع لهذه الإمبراطورية من خلال ما كان يعرف بأرخونية إفريقية، إلا أنها بظروفها السياسية والدينية تُعَدُّ امتدادًا طبيعيًّا لبلاد الشام مع بعض الاختلاف في المدى الذي ترتبط به بالحكم المركزي في القسطنطينية؛ فقد وحدت بينهما العقيدة النصرانية، ولكن وفقًا لمفهوم لا يتفق كثيرًا مع المذهب الإمبراطوري الملكاني.
ومن ناحية أخرى، كان الحكم البيزنطي مباشرًا ومستبدًّا، يدار بواسطة حاكم يعينه الإمبراطور، لكن الحضور السياسي كان ضعيفًا، مما أدى إلى انعدام التوازن في العلاقة بين الحكم المركزي والشعب المصري، وكان المظهر الوحيد للسيادة المركزية والإدارية التي تُؤَمِّنُ مصالح الدولة الحاكمة، هو وجود مراكز عسكرية في المدن الكبرى، وبعض الحاميات المنتشرة في الداخل.
وكانت مصر بوصفها مرتبطة مباشرة بالحكم المركزي تتأثر بما كان يحدث في البلاط البيزنطي من صراعات ومؤامرات من أجل السلطة؛ فَتَعَرَّضَ المصريون لأشد أنواع المضايقات في عهد الإمبراطور فوقاس (602 -610م)، فما اشتُهِرَ به عهدُه من المؤامرات والاغتيالات، إنما حدد الإطار الخارجي الذي جرى في نطاقه من العوامل ما أَدَّى إلى انتشار الفوضى والتفكك البطيء في الحكومة والمجتمع، وقد تأثرت مصر بذلك، فامتلأت أرض الصعيد بعصابات اللصوص وقطاع الطرق، وغزاها البدو وأهل النوبة، واضطربت أوضاع مصر السفلى أيضًا وأضحت ميدانًا للشغب والفتن والثورات بين الطوائف، أوشكت أن تكون حربًا أهلية. وانصرف الحكام إلى جمع المال لخزينة الإمبراطورية، بِغَضِّ النظر عن مشروعية الوسائل أو عدم مشروعيتها، فاضطرمت مصر بنار الثورة.
وتعرضت الإمبراطورية في هذه الأثناء إلى كارثة خطيرة، إذ هُزِمَتْ عسكريًّا في البلقان وآسيا الصغرى وبلاد الشام، واجتاحتها الجيوش الفارسية، ثم شرع الفرس يغزون مصر.
كسرى أبرويز
وفي أيام فوقا (فوكاس) (602 - 610م) ملك الروم، بعث كسرى أبرويز ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر، فخربوا كنائس القدس وفلسطين وعامة بلاد الشام، وقتلوا النصارى بأجمعهم، وأتوا إلى مصر في طلبهم فقتلوا منهم أمة كبيرة، وسبوا منهم سبيًا لا يدخل تحت حصر، وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم.
وفي أيام "فوكاس" أُقِيمَ يوحنا الرحوم بطرك الإسكندرية فدبَّر أرض مصر كلها عشر سنين، ومات بقبرص وهو فَارٌّ من الفرس، فخلا كرسي الإسكندرية من البطركية سبع سنين لخلو أرض مصر والشام من الروم، واختفى من بقي بها من النصارى خوفًا من الفرس. وكان غزو الفرس للإسكندرية عام 617م، وتم لهم إخضاع مصر عام 618م، وبلغوا أقاصي الصعيد حتى أسوان، وبقي سلطانهم في مصر حوالي عشر سنوات.
وعندما ملك هرقل (610 - 641م) الروم بالقسطنطينية تغلب على الفرس وغزا عاصمتهم المدائن، وأجبرهم على الانسحاب من جميع الأراضي التي استولوا عليها من آسيا الصغرى وبلاد الشام، وخرجوا من مصر عام 627م ، وهكذا عاد الروم إلى مصر في عهد هرقل.
والحقيقة أن تغلب الروم على الفرس كان أمرًا متوقعًا ولا يدعو إلى الدهشة بالنسبة للمسلمين، لماذا؟ لأن الله تعالى قد أخبر بذلك في كتابه الكريم؛ ففي أوائل الفترة المكية نزل القرآن الكريم بمقدمات سورة الروم وفيها: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:1–4]، وكان هذا إخبارًا بما حدث من هزيمة الروم، وبما سيحدث من انتصارهم لاحقًا على الفرس.
وقد ذهب أبو بكر الصديق يذكر ذلك للمشركين يغيظهم به، وقد كان المسلمون يفرحون لنصر الروم لأنهم أهل كتاب، بينما يفرح المشركون لنصر الفرس لأنهم وثنيون مثلهم، فقال أبو بكر الصديق : لَيَظْهَرَنَّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا. فصاح به أُبيّ بن خلف قائلاً: كذبت يا أبا فضيل. فقال الصديق: أنت أكذب يا عدو الله. فقالوا: هل لك أن نقامرك؟ وذلك قبل تحريم المراهنة والمقامرة، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين ومشت السبع سنين ولم يكن شيء؛ ففرح المشركون بذلك فشَقَّ على المسلمين، فذُكِرَ ذلك للنبي فقال: "ما بضع سنين عندكم؟". فقالوا: دون العشر. قال: "اذهب فزايدهم سنتين في الأجل". قال: فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على الفرس.
الروم مرة أخرى:
خرج الفرس من مصر عام 627م، وعاد إليها الروم البيزنطيون، وفي عام 631م أرسل هرقل الأسقف سيروس Cyrus بطركًا للإسكندرية، وهو الذي ذكره المقريزي باسم "فيرس" وذكره غيره باسم "قيرس" وكان ملكاني المذهب، وإلى جوار أنه كان أسقفًا فقد كان نائبًا عن هرقل في حكم مصر، وكانت الإسكندرية ما زالت هي عاصمة البلاد.
وصل "قيرس" إلى الإسكندرية، وبدأ اضطهاده للقبط ليحملهم على اتباع المذهب الملكاني الحكومي، فكان عليهم أن يختاروا بين مذهب خلقيدونية بنصه أو الجلد أو الموت، وبلغ السيل الزبي بقبط مصر، فلئن كان حكم الفرس مما لم يرغبوا فيه لِمَا كان معه من ظلم وجور، فإن حكم الرومان وبطشهم وعسفهم لم يكن مما يفرحون به ويحمدونه، فقد جاء "قيرس" ليحرمهم حرية العقيدة. وتتفق كلمة المؤرخين أن اضطهاد "قيرس" للقبط قد استمر عشر سنوات، بمعنى أنه استمر طول مدة ولايته.
  #3  
02-05-2014, 12:52 PM
رد: فتح مصر

أهمية الفتوحات الإسلامية
عالمية الدعوة الإسلامية وعمومية الرسالة

للمسلم في هذه الحياة مهمة جليلة وعظيمة وضحها الصحابي الجليل ربعي بن عامر في حواره مع رستم قائد الفرس، عندما سأله قائلاً: ما جاء بكم؟ فقال ربعي: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل منا ذلك قبلنا منه حتى نفضي إلى موعود الله. فقال: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أَبَى، والظفر لمن بقي. فإذا سُمِحَ لهم بتوصيل دعوة ربهم I فبها ونِعْمَتْ، وإن لم يسمح لهم بذلك قاتلوا من يمنعونهم من إيصال الدعوة.

والذي يجب أن نعلمه أن كل رسول مُطالَب بالبلاغ، ومن مصلحة الناس في الدنيا أن يصلهم البلاغ، فالناس لا يدركون أين المصلحة، مثل الطفل الذي لا يدري قيمة الدواء. والإسلام دين عالمي يجب تبليغه إلى الناس كافة، وقد ورد في كتاب الله تعالى آيات عديدة تدل على عموم الرسالة وعالمية الإسلام، منها:

1- {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:87-88].

2- {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:69-70].

3- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1].

4- {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].

5- {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158].

6- {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر:36].

7- {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:29-33].

فهذه الآيات توضح دون ريب أو شك عالمية الدعوة الإسلامية وعمومية الرسالة التي يجب تبليغها إلى الناس أجمعين بالحكمة والموعظة الحسنة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125].

الجهاد

ركز الإسلام في نفوس أتباعه المؤمنين مبدأ العزة، وجعل شعورهم بها شعارًا: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]. ولا بد لهذه العزة أن تبقى وتنتشر بين الشعوب المضطهدة المظلومة، والجهاد هو وسيلة بثها ونشرها، وجعل الإسلام لهذه العزة مؤيدات وضمانات هي:

1- ربط ضمير المؤمن بمثل أعلى هو الله؛ فلا يعرف المؤمن الخضوع إلا لربه، ولا يخشى أحدًا سواه.

2- جعل الإنسان يسمو على كل طبقية أو حسب أو نسب، أو مال أو جاه، أو لون أو جنس. وجعل العمل الصالح لخير الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة منشأَ كل تقدير أو شرف: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132].

3- مبدأ المساواة في الحقوق.

4- العدل المطلق قوام المجتمع والحكم، فلا تفاوت بسبب قرابة أو مودة أو عداء.

5- تحريم الاعتداء على الأنفس والأموال والأعراض.

فالعزة لا تعني الاستعلاء أو البغي أو التسلط، ومع ذلك فهي عزة قائمة على القوة وجاعلة هدفها السلم في العلاقات الدولية: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]. وما قوة العزة، وعزة القوة إلا للدفاع عن المبدأ والدعوة، وردع الاعتداء وظلم الظالم، فالعزة درع الرسالة وصون لها.

أهداف الجهاد:

لم يفرض اللهُ I الجهاد لإكراه الناس على الإسلام؛ فالإكراه لا يؤسس عقيدة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]؛ لذلك فإن الإسلام لا يقهر ولا يجبر أحدًا على دين يرفضه، وعلى ذلك فالحرية مكفولة في أحكام دستور الإسلام.

ولو صح قول بعضهم أن الإسلام سَلَّ سيفًا وفرض نفسه على الناس جبرًا، لما وجدنا شيئًا اسمه "الجزية" أو "ذميون"؛ فالجزية لغير المسلمين الذين لم يرضوا دخول الإسلام ولم يجبرهم الإسلام على اعتناقه، إنهم في حرية تامة، عقائدهم ومعابدهم محترمة، يطبقون أحكام دينهم فيما بينهم، وقد جاءت النصوص الصريحة تحرِّم إيذاءهم؛ فقد قال رسول الله : "مَنْ آذَى ذِمِّيًّا فَأَنَا خَصْمُهُ".

فالحُجة أن الجهاد وسيلة لنشر الدعوة الإسلامية:

- {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].

- {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].

- {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22].

- {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45].

وأساس إعلان الجهاد:

1- إزالة عوائق الحرية العقلية، وحماية الشخصية الإنسانية من الانحدار في هوة من الإسفاف، وإتاحة المجال لإبراز خصائصها الخيِّرة، وتخليصها من شوائب الخرافة والوهم وعبادة المادة واستغلال المستضعفين؛ لتقرر كلمة الله في الأرض وتعلو.

2- رد الظلم والبغي والعدوان عن الدين والوطن والأهل والمال والولد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39].

3- كفالة حرية الدين والاعتقاد.

4- تأمين طريق الدعوة لدين الله بأمر من الله، باعتبارها رسالة اجتماعية إصلاحية، ومنقذة شاملة، تنطوي على مبادئ الحق والخير، والعدل والمساواة والإخاء، وعبادة الله وحده.

5- نصرة المظلومين المضطهدين من الشعوب: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الأنفال:72].

آداب الجهاد:

للحروب عند المسلمين آدابٌ لخصها الخليفة الأول أبو بكر الصديق في عشر خصال، جاءت في خطبته التي وَدَّعَ بها جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وفيها يقول: "يا أيها الناس، قفوا أُوصِكُم بعشر فاحفظوها عني:

1- لا تخونوا ولا تغلُّوا.

2- ولا تغدروا ولا تمثلوا.

3- ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا.

4- ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة.

5- ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه.

6- ولا تقطعوا شجرة مثمرة.

7- ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة.

8- وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فَرَّغوا أنفسهم له.

9- وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام؛ فإذا أكلتم منها شيئًا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه.

10- وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقًا. اندفعوا باسم الله".

ومن آداب الإسلام في الجهاد: عدم التمثيل بالقتيل، أو الإحراق بالنار، أو تجويع الأعداء، أو إرهاب الأسرى. ومن الآداب: ضرورة إعلان الحرب قبل البدء بالقتال؛ للابتعاد عن الخداع والخيانة، ولا تعلن الحرب إلا بعد استنفاد جميع وسائل النصح والدعوة، ثم عدم التفاخر بالنصر أو مُرَاءَاة الناس: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ} [الأنفال: 47].

الفتوحات الإسلامية مطلب ديني أم دنيوي؟

من المؤكد أنه ليس في الفتوحات الإسلامية مطلب دنيوي على الإطلاق، بل على العكس، ينفق المسلمون أرواحهم وأموالهم ليصلوا بدعوة الله إلى الناس. والدليل على أنه لا مطلب دنيوي أنه إذا آمن قوم احتفظوا بكل ما يملكون.

بل انظر إلى جواب زهرة بن الحوية عندما عرض عليه رستم الذهب والكساء قبيل القادسية، قائلاً له: "انصرف وقومك ولكم منا جُعْل". فقال زهرة: "إنا لم نأتكم بطلب الدنيا، إنما طِلْبتُنا وهمتنا الآخرة". وانظر أيضًا إلى جواب المغيرة بن شعبة لرستم حين قال: "قد علمت أنه لم يحملكم على ما أنتم عليه إلا ضيق المعاش، وشدة الجهد، ونحن نعطيكم ما تشبعون به، ونصرفكم ببعض ما تحبون". فما كان من المغيرة إلا أن سَخِرَ منه ومن رأيه ومن ماله، حيث صاح به بألا مناص من واحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال.

فلو أراد الفاتحون مالاً دون نشر الدعوة والعقيدة، لرضوا بالمال دون دماء، ولحفظوا أرواحهم وعادوا بأموال تكفيهم بلا تعب ولا إرهاق، أو تيتيم أو ترمُّل. فمن ذا الذي يحمل رأسه على يده ويقاتل بها أقوى جيوش الدمار والفتك لينال من بذخ العيش؟!

وإذا نظرنا إلى التاريخ الإسلامي نجد أنه مملوء بقصص البطولات التي لا يمكن أن يسطرها إلا صاحب عقيدة مُثلَى رسخت في فكره وقلبه، وملأت حياته، ولا تصدر هذه البطولات إلا من إنسان صار كالمَلَك، وصار يعلم لماذا يبذل الروح، وماذا يطلب بها، وهيهات أن تجد في أمة من أمم الأرض مثل هذه البطولات {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].

ففي القادسية: خرج رجل فارسي من أهل فارس ينادي من يبارز؟ فبرز له علباء بن جحش العجلي، فضربه علباء فأصاب رئته، وضرب الفارسي علباء فأصاب أمعاءه، مات الفارسي من ساعته، أما علباء فخَّر على الأرض فلم يستطع القيام، فعالج إدخال أمعائه فلم يتأتَّ له، حتى مَرَّ به رجلٌ من المسلمين فقال: يا هذا، أعني على بطني؟ فأدخله له، فأخذ علباء جلد بطنه ثم زحف باتجاه عدوه من الفرس ما يلتفت إلى المسلمين، فأدركه الموت على رأس ثلاثين ذراعًا من مصرعه إلى صف الفرس!!

وفي اليرموك: كم من منادٍ يصيح قائلاً: من يبايع على الموت؟! لا على الغنيمة، فتفكر.

وقال ورقة بن مهلهل التنوخي - وكان صاحب راية أبي عبيدة في اليرموك -: "كان من أوائل من افتتحوا الحرب غلامٌ من الأزد، وكان حدثا كَيِّسًا، قال لأبي عبيدة: أيها الأمير، إني أردت أن أشفي قلبي، وأجاهد عدوي وعدو الإسلام، وأبذل نفسي في سبيل الله تعالى لعلِّي أُرزَقُ الشهادة، فهل تأذن لي في ذلك؟ وإن كان لك حاجة إلى رسول الله فأخبرني بها"!!

هذا يمثل فتية الإسلام فكيف برجالاته ؟! إنهم يبتغون نشر دعوة أو شهادة.

وفي نهاوند "فتح الفتوح": لِنَرَ ماذا قال النعمان بن مقرن المزني قبل بدء المعركة، لقد قال: "اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم. اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتحٍ يكون فيه عز الإسلام. أَمِّنوا يرحمكم الله"!!

والبطولات في هذا الميدان أعظم من أن تحصى، ومع كل ذلك فنحن لا نُكرِه أحدًا أبدًا على الإسلام، ومحال أن تجد في التاريخ حادثة واحدة تدل على ذلك، بينما تجد العكس في كثير من دول العالم في القديم والحديث: روسيا والصين، وقبل ذلك في محاكم التفتيش.

في كل فتوحات الإسلام ما دُنِّسَ إنجيلٌ ولا توراةٌ، وما سُبَّ نبيٌّ، بل نرفع كل الأنبياء فوق كل البشر {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285].

غير المسلمين في الدولة الإسلامية

على أن الذي يعيش على غير الإسلام في دولة إسلامية فإنها تحترم حقوقه تمام الاحترام، ولا يجوز ظلمه بأي حال من الأحوال، وأمثلة ذلك في التاريخ لا تحصى.

فمن حقهم الملكية، والعبادة الشخصية، وأَكْلُ ما يشتهون، وشُرْبُ ما يريدون، ومن حقهم العمل بالوظائف المختلفة، ولا يُظلَمون أبدًا، وقد قال رسول الله : "أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوْ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".

أما بالنسبة للجزية فنجد أنها أقل بكثير مما كانوا يدفعونه من ضرائب، سواء للرومان أو للفرس أو غيرهما؛ فالجزية لا تُؤخَذُ على النساء، ولا الأطفال، ولا الشيوخ، ولا المرضى، ولا المعتكفين للعبادة، وإنما تؤخذ فقط من القادرين على القتال وحمل السلاح، وهي تؤخذ في مقابل الدفاع، وإذا عجز المسلمون عن الدفاع عنهم رُدَّتْ إليهم جزيتُهم، كما حدث مع أهل حمص، ولكن إذا قُورِن بين الجزية والزكاة نجد أن الأرخص له أن لا يظل كافرًا!!

والحقيقة أن الفارق عظيم وهائل بين المناهج السماوية والمناهج الأرضية، فهل سمعتم بشعوب كاملة تدخل في دين المحتل إلا مع الإسلام؟

فلماذا يحدث ذلك؟ والجواب ببساطة: لأن المنهج مقنعٌ، ولا يقارن بالمرة!

وتراهم يقولون: الحل العسكري حلٌّ رجعي.

والحقيقة أنه في كثيرٍ من الأحيان يكون الحل العسكري حلاًّ واقعيًّا، فكم نتمنى أن تسمح الدول بالدعوة دون مقاومة، ولكنهم لا يفعلون.

ثم إن ما فعلته كل الدول الاستعمارية في الدول المحتلة، أليس ذلك حلاًّ عسكريًّا، سواء في القديم أو الآن؟! أليس هناك دول إسلامية محتلة؟! أَحَلالٌ على الدول المحتلة أن تنشر إباحيتها بالقوة، ويحرم على المسلمين أن ينشروا فضيلتهم؟! {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
  #4  
02-05-2014, 12:52 PM
رد: فتح مصر

دوافع فتح مصر
لم يكن فتح مصر عشوائيًّا، وإنما كان ذلك بخطة محكمة ودراسة مسبقة، ويرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل؛ منها ما هو ديني أو عسكري أو سياسي أو اقتصادي أو غير ذلك.
1- الدافع الديني:
فتح مصريتمثل هذا الدافع في رغبة المسلمين في الاضطلاع بأعباء الدعوة الإسلامية العالمية، وضرورة أداء أمانة تبليغها إلى العالمين لإبراء الذمة أمام الله U، وقد سبق للمسلمين في عهد الرسول r دعوة المقوقس إلى الإسلام سلميًّا، فقد أرسل له النبي r الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة، وكذلك أبو بكر الصديق t أرسل إليه حاطبًا مرة أخرى، وفي عهد عمر بن الخطاب t أرسل إليه كعب بن عدي بن حنظلة التنوخي، فما كان من المقوقس إلا أن اكتفى بالرد الحسن.
ولما كانت مصر خاضعة للإمبراطورية البيزنطية كان من الضروري مواجهة جند هذه الإمبراطورية على أرض مصر؛ ذلك أنهم يحولون بين المصريين وبين الدخول في الإسلام.
لقد تطلع المسلمون إلى فتح مصر بعد ورودها في كثير من المواضع في القرآن الكريم عند التعرض لقصص الأنبياء الأولين، وتبشير النبي r صحابته بفتحها وتنويهه بجندها، وتوصيته بأهلها خيرًا، ومن أجل ذلك كله حرص المسلمون على فتحها.
2- الدافع العسكري:

كان هذا الفتح طبيعيًّا لأن مصر هي الامتداد الطبيعي الجنوبي لفلسطين، كما أن فتح ما فُتِحَ من مدن فلسطينية قد أجهد البيزنطيين، ولا بد من ضربة قاصمة لوجودهم في هذه الأماكن الجنوبية فكان ذلك.
ومن ناحية أخرى فإن "أرطبون" قائد بيت المقدس قد انسحب منها بنظام إلى مصر لإعادة المقاومة، ودفع المسلمين عن الشام ثانية، ولذلك استدعى الأمر مباغتة هؤلاء والإيقاع بهم قبل تزايد خطرهم واستعمال قوتهم.
كما أن الاستيلاء على ما في مصر من ثغور وسفن سوف يمكِّن المسلمين من إخضاع مدن الشام الشمالية الواقعة على البحر المتوسط، والتي كانت لا تزال تقاوم المسلمين، ففتح مصر ضرورة حربية ملحة تكميلاً لفتح بلاد الشام؛ لأن الإمبراطورية البيزنطية كانت تسيطر على الشام ومصر وبلاد المغرب، وتلك البلاد -عسكريًّا- تعد منطقة واحدة؛ إذ إن فتح جزء منها يستلزم فتح الأجزاء الأخرى نتيجة التعرض للصدام مع عدو واحد يحتلها.
وكذلك كان من الممكن عند إغفال فتح مصر مهاجمة البيزنطيين دار الخلافة عن طريق البحر الأحمر، فتهبط قواتهم إلى ميناء جدة أو الجار، وتتم مهاجمة الحجاز.
وكان من دواعي فتح مصر أيضًا أن البيزنطيين حاولوا استرداد الشام من المسلمين، وأرادوا عرقلة جهودهم للتوجه جنوبًا، وهاجموهم من شمال الشام، فشعر المسلمون أنهم محاصرون بين قوات بيزنطة في آسيا الصغرى وقواتهم في مصر.
أضف إلى ذلك أيضًا سهولة فتح مصر الذي لن يكلف العرب المسلمين سوى القليل من الأرواح والأموال؛ لقلة التحصينات بها.
كما أن معرفة عمرو بن العاص t لمصر ودرايته بها، وهو القائد المختار لفتح البلاد، وَفَّرَ على المسلمين كثيرًا من المعاناة والتكاليف. إضافة إلى أن أغلب الجند الذين اشتركوا في الفتح كانوا من العناصر اليمنية، وأغلبهم من قبيلتي غافق وعك على وجه الخصوص، وهؤلاء اليمانية مهروا في قتال الحصون الساحلية، واشتركوا مع عمرو في فتح الحصون ببلاد الشام، فهم أقدر الناس على فتح مصر ومعالجة شئونها العسكرية، كما كانوا على دراية ببناء المدن واختطاطها، والإلمام بالزراعة، فهم من هذه الناحية العسكرية أقدر الناس على تفهم أمور مصر ومعالجة شئونها.
3- الدافع السياسي الاقتصادي:

وهو يتعلق بما تَجَمَّع لدى المسلمين من معلومات عن أوضاع مصر السيئة في ظل حكم البيزنطيين، وما تَرَدَّتْ إليه أوضاعها الاقتصادية نتيجة المظالم المادية، والنهب المنظم لثروات البلاد لصالح الغرباء عنها.
ويُضَافُ إلى ذلك الصراع الديني المذهبي الذي أَجَّجَ العداوة والأحقاد بين عامة الشعب من القبط، وبين البيزنطيين.
أدرك المسلمون ذلك كله، وأدركوا معه غنى مصر وثراءها، وعلموا أن ضمها إلى بلدان الإسلام يضمن انتعاشًا في اقتصاد المسلمين، ويوفر لهم الأموال التي تساعد على مزيد من الفتوح، إضافة إلى أن مصر كانت مركزًا رئيسيًّا لتمويل بيزنطة بالقمح، ومع انهيار الجيش البيزنطي، وما حَلَّ بمصر من ضعف وانقسام كانت الفرصة مواتية للإقدام على فتح مصر.
  #5  
02-05-2014, 12:53 PM
رد: فتح مصر

علاقة مصر بالدولة الإسلامية
جاء الفتح الإسلامي لمصر عام 640 - 642م، وهذا الفتح لم يكن على أي نسقٍ سابق أو لاحق، وبالرغم من أن الفتح الإسلامي قد محا كل أثر لأي غزو سابق، وبالرغم من أن أرض الكنانة مصر تعرضت لغزوات واحتلال بعد ذلك، فإن أيًا منها لم يستطع أن يغير شيئًا من نتائج الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.

وعلى إثر هذا الفتح ظلت مصر عربية إسلامية إلى يومنا هذا، وإلى أن تقوم الساعة بإذن الله، وكان دخول المسلمين مصر في أعقاب دول وحضارات سبقت، بدأت بالفرعونية ثم الرومانية فالقبطية والبيزنطية.

المقوقس:
لم تكن كلمه "المقوقس" اسما لرجل، إنما كانت لقبا أو اسما لوظيفة، فهي كلمة يونانية معناها المفخم أو المبجل، كما نقول اليوم: صاحب الجلالة أو السمو، أو عظمة السلطان أو فخامة الرئيس. وقد ظهر هذا اللفظ أول ما ظهر في تاريخنا في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم القبط، ثم عاد إلى الظهور مرة أخرى في أحداث فتح مصر.

ونذهب إلى أنه لم يكن مقوقسا واحدا، إنما كان هناك مقوقسان: أولهما الذي تلقى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه جورج، وكما قال عنه الرواة المسلمون: جريج بن قرقب الرومي، وكان هو الحاكم الرومي من قِبَلِ القسطنطينية، وكانت رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إليه تدعوه إلى الإسلام، وبالرغم من أنه لم يسلم لكنه أجاب جوابا جميلا، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الهدايا.

أما المقوقس الثاني فقد ذكرته المصادر العربية باسم "فيرس"، وكتبها بعضهم "قيرس"، ونختار أن نكتبها كما تنطق وهي سيروس Cyrus وهو اسم مازال معروفا عند اليونانيين وغيرهم، وكان هو الحاكم الرومي من قبل هرقل على ولاية مصر، كما كان البطرك الملكاني لكنيسة الإسكندرية، فاجتمعت في يده السلطتان.

وبعض من كتب ذهب إلى أنه كان مصريا قبطيا، وبعضهم استند إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إليه التي استهلها بعبارة: «من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط»، ويبنون على ذلك أنه كان من القبط، ولكن في روايات واضحة أنه كان من الروم، وفى أوضاع كالتي كانت في مصر حينذاك كان عظيم القبط من الروم.

كانت الكنيسة قد انشقت إلى كنيستين: الكنيسة اليعقوبية في الإسكندرية، وتقول بأن للمسيح إرادة واحدة وطبيعة واحدة إلهية، والكنيسة البيزنطية، وتقول بأن للمسيح إرادة واحدة وطبيعتين. وأراد هرقل - كما أشرنا - التوفيق بين الكنيستين، وابتدع سرجيوس بطرك القسطنطينية بدعة جديدة بأن للمسيح إرادة واحدة وأن يمتنع الناس عن الخوض في طبيعته، وتبنى هرقل هذا المذهب، وقَبِلَه سيروس مطران فاسيس فى مستهل عام 631م فولاه هرقل بطركة الإسكندرية، كما أسند إليه حكم مصر وجمع خراجها.

ولكن بنيامين تزعم القبط في رفض هذا المذهب الملكاني، وراح المقوقس يحارب القبط ومذهبهم ويضطهدهم لإجبارهم على مذهبه، حتى صار اسمه مفزعا للقبط كريها لديهم، ويذكر مؤرخو القبط أنهم ولمدة عشر سنين كانوا يخيرون بين قبول مذهب خلقيدونية أو الجلْد أو الموت، حتى قال بتلر: " علينا أن نبين هنا بيانا لا شك فيه أنه لم يكن في ذلك الوقت شيء اسمه القبط في ميدان النضال، ولم تكن منهم طائفة لها يد فيه، بل كان القبط إذ ذاك بمنحاة عنه، قد أذلهم قيرس وأرغم أنوفهم".

وقد دبر فريق من الجايانية من القبط لقتل سيروس، ولكن أخبار المؤامرة نمت إلى علمه فقضى عليها، ولم يكن القبط وحدهم الذين عارضوا المقوقس سيروس، وإنما الملكانيون أيضا لم يعجبهم ذلك المذهب الوسط بين المذهبين، وتزعم معارضتهم صفرونيوس بطرك القدس.

ثم جاء المسلمون وفتحوا الفرما ثم بلبيس ثم هزموا الروم في عين شمس وحاصروا حصن بابليون وكان به المقوقس، ثم عبر إلى جزيرة (الروضة) في 6 يونيه 641م، وبعث إلى عمرو ليفاوضه، ومال المقوقس إلى الصلح ولكن من معه عارضوه، فرحل إلى الإسكندرية في النهر، واستاء منه هرقل فاستدعاه إلى القسطنطينية، ورفض الصلح وأسلمه إلى حاكم المدينة ليهينه ويشهر به ثم نفاه.

ومات هرقل وكانت زوجته مارتينا ذات نفوذ؛ وكان سيروس من حزبها فأعيد إلى الإسكندرية ومعه أمداد من جند الروم، وعاد إلى عسفه بالقبط، ثم قدم على عمرو في بابليون وأذعن له بأداء الجزية، واتفق معه على تسليم الإسكندرية بعد 11 شهرا!!

لم يذكر المقوقس أمر الصلح لأهل الإسكندرية حتى حل الموعد وتحرك المسلمون إليها، فأعلن الأمر وغضب الناس وتظاهروا عند قصره، وبرر ما عمل بأنه لصالحهم وحقن دمائهم ولعجز دولتهم، فقبلوا كلامه وجمعوا الجزية، وحملها سيروس إلى عمرو (ربما في أول المحرم 22 هـ - 642م).

وفي القسطنطينية زال أمر مارتينا وتم نفيها وإذلالها؛ فتكاثرت على سيروس الأحزان وقد زال أمره هو الآخر، وأصيب بالدوسنتاريا مع شيخوخته، فمات في 21 مارس، ولم يكن مقوقسا يوم مات لكنه كان مازال بطركا للكنيسة الملكانية بالإسكندرية، وبعد ثلاثة أشهر ألبسوا الشماس بطرس رداء البطركة في 14 يوليه(1).

العلاقة بين مصر والدولة الإسلامية قبل الفتح
لم تبدأ علاقة المسلمين بمصر بفتحها على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه، وإنما سبق ذلك مقدمات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في خلافة أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما..

ففي شهر ذي الحجة من العام السادس حدث صلح الحديبية بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وقضت شروط الصلح بهدنة بين الطرفين مقدارها عشر سنوات، وما إن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية إلى المدينة حتى بعث كتبه مع مبعوثه إلى الملوك من حوله يدعوهم إلى الإسلام.

فقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فحمد الله، وأثنى عليه وتشهد ثم قال: «أما بعد، فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم، فلا تختلفوا عليَّ كما اختلفت بنو إسرائيل على عيسى بن مريم، وذلك أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عيسى أن ابعث إلى ملوك الأرض فبعث الحواريين، فأما القريب مكانا فرضي، وأما البعيد مكانا فكره، وقال: لا أحسن كلام من تبعثني إليه، فقال عيسى: اللهم أمرت الحواربين بالذي أمرتني فاختلفوا عليَّ، فأوحى الله إليه أني سأكفيك، فأصبح كل إنسان منهم يتكلم بلسان الذي وُجِّهَ إليهم».

فقال المهاجرون: يا رسول الله، والله لا نختلف عليك أبدا في شيء، فمرنا وابعثنا، فبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، وشجاع بن وهب الأسدي إلى كسرى، وبعث دحية بن خليفة إلى قيصر (هرقل)، وبعث عمرو بن العاص إلى ابني الجلندي أميري عمان(2).

مضى حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس، وأترك سيدنا حاطب رضي الله عنه يتحدث عن نفسه إذ يقول: "ثم توجهت أريد مصر ولم أزل إلى أن أتيتها، فلما وصلت إلى باب الملك، قالوا: من أين جئت؟ قلت: أنا رسول إلى ملككم، فقالوا: من عند من؟ قلت: من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمعوا بذلك أحاطوا بي وأوصلوني إلى قصر الشمع بعد أن استأذنوا لي، وأوقفوني على باب الملك فأمرهم بإحضاري بين يديه، فعقلت راحلتي وسرت معهم عند المقوقس، وإذا هو في قبة كثُرَ الجوهر في حافتها، ولمع الياقوت من أركانها، والحجَّاب بين يديه، فأومأت بتحية الإسلام، فقال حاجبه: يا أخا العرب، أين رسالتك؟ قال: فأخرجت الكتاب، فأخذه الملك من يدي بيده.

قال: فباسه ووضعه على عينيه، وقال: مرحبا بكتاب النبي العربي، ثم قرأه وزيره الباكلمين، فقال له: اقرأه جهراً؛ فإنه من عند رجل كريم، فقرأه الوزير إلى أن أتى إلى آخره،

وهذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فَأَسْلِمْ تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] فقال الملك لخادمه الكبير: هات السفط الذي عندك؛ فأتى به ففتحه واستخرج نمطا ففتح ذلك النمط، وإذا فيه صفة آدم وجميع الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وفي آخره صفة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال لي: صِفْ صاحبك حتى كأني أراه.

قال حاطب: ومن يقدر أن يصف عضوا من أعضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لابد من ذلك، قال: فوقفت بعدما كنت جالسا، وقلت: إن صاحبي وسيم قسيم، معتدل القامة، بعيد الهامة، بين كتفيه شامة، وله علامة كالقمر إذا برز، صاحب خشوع وديانة، وعفة وصيانة، صادق اللهجة، واضح البهجة، أشم العرنين، واضح الجبين، سهل الخدين، رقيق الشفتين، براق الثنايا، بعينيه دعج، وبحاجبيه زجج، وصدره يترجرج، وبطنه كطي الثوب المدبج، له لسان فصيح، ونسب صحيح، وخُلُقٌ مليح.

قال: والملك ينظر في النمط، فلما فرغت قال: صدقت يا عربي هكذا صفته، فبينما هو يخاطبني إذ نُصِبت الموائد، وأحضروا الطعام؛ فأمرني أن أتقدم فامتنعت، فتَبَسَّمَ وقال: وقد علمتُ ما أُحِلَّ لكم وحُرِّمَ عليكم، ولم أقدم لك إلا لحم الطير، فقلت: إني لا آكل في هذه الصحاف الذهب والفضة؛ فإن الله قد وعدنا بها في الجنة، قال: فبدلوا طعامي في صحاف فخار فأكلت، فقال: أي طعام أحب إلى صاحبك؟ فقلت: الدباء (يعني: القرع)، فإذا كان عندنا منه شيء آثرناه على غيره. فقال: ففي أي شيء يشرب الماء؟ فقلت: في قعب من خشب.

قال: أيحب الهدية؟ قلت: نعم؛ فإنه قال صلى الله عليه وسلم: «لو دُعِيتُ إلى كراع لأجبت، ولو أُهديَ إليَّ ذراع لقبلت».

قال: أيأكل الصدقة؟ قلت: لا، بل يقبل الهدية ويأبى الصدقة، وقد رأيته إذا أُتِيَ بهدية لا يأكل منها حتى يأكل صاحبها. فقال الملك: أيكتحل؟ قلت: نعم، في عينه اليمنى ثلاثا وفي اليسرى اثنتين، وقال: "من شاء اكتحل أكثر من ذلك أو أقل" وكحله الإثمد، وينظر في المرآة، ويرجل شعره، ويستاك.

فقال المقوقس: إذا ركب ما الذي يحمل على رأسه؟ فقلت: راية سوداء ولواء أبيض، وعلى اللواء مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله. فقال: أله كرسي يجلس عليه أو قبة. قلت: نعم، له قبة حمراء تسع نحو الأربعين. قال: فما الذي يحب من الخيل؟ قلت: الأشقر الأرتم الأغر المحجل في الساق، وقد تركت عنده فرسا يقال لها: المرعد.

قال: فلما سمع كلامي انتخب من خيله فرسا أفخر خيول مصر الموصوفة، وأمر به فأسرج وألجم، فأعده هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فرسه المأمون، وأرسل معه حمارا يقال له: عفير، وبغلة يقال لها: دلدل، وجارية اسمها: بريرة وكانت سوداء، وجارية بيضاء من أجمل بنات القبط اسمها: مارية، وغلام اسمه: محبوب، وطيب وعود وند ومسك وعمائم وقباطي، وأمر وزيره أن يكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا يقول فيه: "باسمك اللهم، من المقوقس إلى محمد، أما بعد؛ فقد وصل كتابك وفهمته، أنت تقول: إن الله أرسلك رسولا وفضلك تفضيلا وأنزل عليك قرآنا مبينا، فكشفنا - يا محمد - خبرك، فوجدناك أقرب داع إلى الله وأصدق من تكلم بالصدق، ولولا أنني ملكت مُلكا عظيما لكنت أول من آمن لعلمي أنك خاتم النبيين وإمام المرسلين، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته مني إلى يوم الدين.

قال: وسلم الكتاب والهدية إلي و قبلني بين عيني، وقال: بالله عليك قَبِّلْ بين عيني محمد عني هكذا، ثم بعث معي من يوصلني إلى بلاد العرب وإلى مأمني. قال: فوجدنا قافلة من بلاد الشام وهي تريد المدينة فصحبتها إلى أن وردت المدينة، فأتيت المسجد وأنخت ناقتي ودخلت، وسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشأت أقول:
أنعم صباحا يا وسيلة أحمد *** نرجو النجاة غدا بيوم الموقف
إني مضيت إلى الذي أرسلتني *** أطوي المهامة كالمجد المعنف
حتى رأيت بمصر صاحب ملكهم *** فبدا إليَّ بمثل قول المنصف
فقرأ كتابك حين فك ختامه *** فأطل يرعد كاهتزاز المرهف
قال البطارقة الذين تجمعوا *** ماذا يروعك من كتاب مشرف
قالوا: وهمت فقال: لست بواهم *** إني قرأت بيان لفظ الأحرف
هذا الكتاب كتابه لك جامعا *** يا خير مأمول بحبك نكتفي (3)

ويذكر ابن عبد الحكم أن المقوقس قال لحاطب بن أبي بلتعة رضى الله عنه بعد أن قرأ الكتاب: ما منعه إن كان نبيا أن يدعو عليَّ فيُسلَّط عليَّ! فقال له حاطب: ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يُفعَل به ويُفعَل؟ فوجم ساعة، ثم استعادها فأعاد عليه حاطب فسكت، فقال له حاطب: إنه قد كان قبلك رجل زعم أنه الرب الأعلى فانتقم الله به ثم انتقم منه، فاعتبِر بغيرك ولا يُعتبَر بك، وإن لك دينًا لن تدعه إلا لما هو خير منه، وهو الإسلام الكافي – والله - به فَقْدَ ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى من قبل إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به.

ويروي ابن عبد الحكم أيضا أن المقوقس أرسل ذات ليلة إلى حاطب رضي الله عنه وليس عنده أحد إلا ترجمان له فقال: ألا تخبرني عن أمور أسألك عنها؟ فإني أعلم أن صاحبك قد تخيرك حين بعثك قال: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: إلام يدعو محمد؟ قال: إلى أن تعبد الله، لا تشرك به شيئا، وتخلع ما سواه، ويأمر بالصلاة. قال: فكم تصلون؟ قال: خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، والوفاء بالعهد، وينهى عن أكل الميتة والدم.

قال: من أتباعه؟ قال: الفتيان من قومه وغيرهم، قال: فهل يقاتل قومه؟ قال: نعم. قال: صفه لي، فوصفه بصفة من صفته لم آتِ عليها، قال: قد بقيت أشياء لم أَرَكَ ذكرتها: في عينه حمرة قلما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، يركب الحمار ويلبس الشملة، ويجتزيء بالتمرات والكسر، لا يبالي من لاقى من عَمٍّ ولا ابن عم.

قلت: هذه صفته. قال: قد كنت أعلم أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أن مخرجه الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله، فأراه قد خرج من العرب، في جهد وبؤس، والقبط لا تطاوعني في اتِّباعه، ولا أحب أن يُعْلَمَ بمحاورتي إياك، وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما هاهنا، وأنا لا أذكر القبط من هذه حرفًا، فارجع إلى صاحبك.


(1) راجع أحمد عادل كمال: الفتح الإسلامي لمصر.
(2) المرجع السابق 5/ 221.
(3) راجع: فتوح الشام 1/ 284،285

الكلمات الدلالية (Tags)
مصر, فتح


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 



الساعة الآن 03:59 PM

Powered by vBulletin
الاختلاف عن البقية معنى الإبداع وصنع الشيء المستحيل ..(المقلدون خلفنا دائماً) من قلدنا أكد لنا بأننا الأفضل..