فهمي هويدي يكتب: لماذا كان ضروريـًا خـروج الشاطر وسليمان؟ لداعى السفر، كنت قد كتبت مقالى الأسبوعى وسلمته بعد ظهر يوم السبت، لكى يتم صفه وتوزيعه خلال اليومين التاليين. ودعوت فيه إلى انسحاب المهندس خيرت الشاطر واللواء عمر سليمان من الترشيح للرئاسة، حيث اعتبرت أن الرجلين كانا بمثابة قنبلتين انفجرتا فى وجوه المصريين وأربكت كل الحسابات. لم أشر إلى المرشح حازم أبوإسماعيل لأننى تصورت أن موضوع جنسية أمه الأمريكية محسوم، وأنه سيخرج من السباق لأسباب قانونية. من ثم وجدت أن خروج الرجلين الآخرين (الشاطر وسليمان) له ضرورته من الناحية السياسية.. وإن كان قرار لجنة الانتخابات باستبعادها المبدئى قد أضاف أسبابا أخرى قانونية. فاجأنى قرار استبعاد المرشحين الذى صدر، وكنت مخيرا بين وقف ظهور المقال وبين نشره لإيضاح الأسباب السياسية التى تستدعى خروج الرجلين من قوائم المرشحين، خصوصا أن باب الطعن فى قرار اللجنة ظل مفتوحا لمدة 48 ساعة، وليس من اليسير تحديد موقفهما النهائى قبل النشر، إليك نص المقال المكتوب قبل إعلان قرار لجنة الانتخابات. حين يصبح الخوف على الثورة فى مصر عنوان المرحلة الراهنة، فإن استنفار الجماعة الوطنية واحتشادها لإبعاد شبحه بأى ثمن يصبح واجب الوقت. أحدث مشاهد الخوف تبدت حين لاح فى الأفق فجأة شبح مبارك مرة أخرى، حين ظهر أمامنا فى شخص نائبه وصفيه اللواء عمر سليمان، الذى قال عنه أحد خبراء المخابرات المركزية الأمريكية أنه هو ومبارك لم يكونا شخصين، ولكنهما كانا شخصا واحدا. لم يكن انفجار قنبلة ظهور مبارك الآخر فى وجوهنا هو المفاجأة الوحيدة، لأن ملابسات ذلك الدخول حفلت بمفاجأت أخرى. إذ يعد إحجاما وإقداما استغرقا فى العلن نحو ثلاثة أيام فوجئنا بأن 49 ألف توكيل رتبت للرجل فى أقل من 24 ساعة، فيما وصفه اللواء سليمان بأنها «معجزة تمت بتسهيل ربانى». ولأن مبلغ علمنا أن عصر المعجزات انتهى، فإن ظهور تلك المعجزة لصالح ترشح اللواء سليمان لا تستطيع أن نسلم به بسهولة. بكلام آخر فإن جمع ذلك العدد الكبير من التوكيلات، وحديث الرجل عن عشرات الألوف من التوكيلات الأخرى التى لم تصل إلى القاهرة بسبب محدودية الوقت، هذا الكلام لم يهضمه المجتمع بسهولة، فتحدث البعض عن دور لرجال المخابرات العامة فى جمع توكيلات من ألوف المجندين للقوات المسلحة. وتحدث آخرون عن أن الفلول فى أحد النوادى الكبرى أقاموا مركزا لهم وطلبوا من أعضاء النادى أن يسندوا اللواء سليمان، وهذا ما فعله فريق آخر من الفلول الذين يملكون بعض المصانع، وطلبوا عمالهم نفس المطلب. لكن ذلك فى كفة وموقف المجلس العسكرى من ترشيح اللواء سليمان فى كفة أخرى. ذلك أننى لست واثقا من أن المجلس يقف حقا على مسافة واحدة من كل المرشحين للرئاسة. ولست واثقا مما قاله صاحبنا لزملينا عادل حمودة فى صحيفة «الفجر» من أنه يرفض أن يكون مرشح المجلس العسكرى. كما أننى لا أستطيع أن أقتنع بسهولة بأن عناصر المخابرات العامة التى رأسها طوال عشرين عاما يمكن أن تكون بعيدة عن الموضوع. ثمة همس يعتمد على قرائن متوفرة تشير إلى أن ثمة أعدادا للتدخل لصالحه فى انتخابات الرئاسة القادمة التى ستجرى فى لجان المصريين بالخارج، وهى التى تنعقد بعيدا عن الأعين فى السفارات، ومعروف أن تلك السفارات تضم فى العادة ضباطا تابعين للمخابرات العامة، وأن قدموا بصفات أخرى. ومعلوماتى أن هذا الموضوع وبعض القوائم التى تسربت محل بحث الآن فى إحدى الجهات المعنية. كنت قد تحدثت من قبل عن «غسل» عمر سليمان الذى يقوم به بعض أعوان النظام السابق من إعلاميين وأصحاب مصالح، كما ذكرت أن اللعب صار على المكشوف فى الساحة السياسية، حيث سقطت الأقنعة ــ أغلبها إن شئت الدقة ــ ولم يعد رجال مبارك يستحون من التعلق بشخصه وزمانه، بعدما ظلوا حريصين على إخفاء هذه «العورة» طوال الخمسة عشر شهرا الماضية. لقد ذهب البعض ــ كما تحدث هو شخصيا ــ إلى أن معارضى ترشيح اللواء سليمان يخشونه. وهذا ليس صحيحا على الإطلاق لأن هؤلاء ينسون أن الرجل رمز لنظام ثار عليه المجتمع، وأن دوره فى خطايا النظام وجرائمه السياسية لا يمكن أن ينسى أو يغتفر. يكفى أنه منذ توليه منصبه وطوال عشرين عاما كان بمثابة مبارك الآخر، كما قيل بحق. وهو ما يعنى أن معارضه ترشيح الرجل لم تنطلق من الخوف منه، ولكنها كانت نفورا مما يمثله وخوفا على البلد. الذى لا يقل سوءا على ذلك أن ملابسات دخول الرجل إلى الحلبة أثارت شكوكا حول حقيقة الدور الذى يقوم به المجلس العسكرى، ليس فى الوقت الراهن فحسب وإنما فى ترتيب أوراق المستقبل أيضا. بل إن تلك الشكوك دفعت البعض إلى التساؤل عن احتمالات التسامح فى التلاعب فى نتائج الانتخابات الرئاسية. ما قلته بخصوص ترتيب أوراق المستقبل لا ينصرف إلى مستقبل البلد فحسب، وإنما أيضا إلى مستقبل دور القوات المسلحة وموقعها فى الدستور الجديد. إذ المعلومات المتوفرة أن المجلس العسكرى مصر على النص فى الدستور على خصوصية وضع القوات المسلحة فى الدفاع عن النظام السياسى، وعلى عدم مناقشة تفاصيل موازنته فى مجلس الشعب. وأمام إصرار القوى الوطنية على رفض المطلبين ــ الذين سبق أن استجابت لهما ما سمى بوثيقة الدكتور السلمى والتعامل مع القوات المسلحة كأى مؤسسة أخرى مقدرة فى المجتمع، فإن المجلس العسكرى ربما يكون قد أثر أن يساند رئيسا من «آل البيت» يحقق له ما يريد. توقيت ومناخ دخول السيد سليمان إلى حلبة المنافسة لابد أن يثير الانتباه. ذلك أن أحدا لا يشك فى أنه اختار لحظة استشعر فيها الناس الخوف من تزايد نفوذ الإسلاميين بعد انتخابات الجمعية التأسيسية لوضع الدستور. وفى الحديث الذى أجراه الرجل لجريدة الفجر، قال صراحة إنه دخل فى السباق لأسباب عدة على رأسها «إنقاذ» البلاد من هيمنة الإسلاميين، وهذا الخوف له أسبابه المتعددة. فمن ناحية ينبغى الاعتراف بأن ثقافة الخوف من الإسلاميين والعداء لهم مستقرة فى أوساط عدة، وأن عملية التخويف التى سادت فى الدوائر السياسية والإعلامية المصرية لم تتوقف وإنما استمرت بعد سقوط النظام. وإذا كانت عملية التخويف تتم فى الماضى بسبب وبغير سبب، فما بالك إذا أصبح السبب مؤكدا وملموسا. ذلك أننا يجب أن نعترف بأن الإخوان المسلمين أخطأوا فى قراءة الواقع حين ألقوا فى الساحة بقنبلة أخرى تمثلت فى ترشيح المهندس خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية خلافا لما وعدوا به. وأخطأوا حين تراجعوا عن نسبة تمثيل مجلس الشعب والشورى فى اللجنة التأسيسية، فرفعوها إلى 50٪ بدلا من الإعلان المبكر عن 40٪. وأخطأوا فى التطلع إلى تشكيل الحكومة والتسرع فى طلب سحب الثقة من حكومة الدكتور الجنزورى. وحين ترأسوا مجلس الشعب والشورى واللجنة التأسيسية التى يفترض أن تقوم بإعداد الدستور، وضغطوا لأجل تشكيل الحكومة برئاستهم، ثم رشحوا أحد قياديهم لرئاسة الجمهورية. حين فعلوا ذلك فإنهم أزعجوا المجتمع وخوفوا طبقته السياسية ودفعوا الناس إلى تصديق الكثير مما كان ينسب إلى موقفهم من السلطة. لا أتحدث عن الموقف القانونى الذى قد يكون سليما، لكننى أتحدث عن الرؤية الاستراتيجية والملاءمة السياسية حتى أزعم أن الخائفين من الإخوان تأكدت مخاوفهم، والمحبين للإخوان توجسوا منهم. أما المحايدون فقد خسر الإخوان أغلبهم، بسبب التعبئة الإعلامية التى تصيدت أخطاءهم. وكانت النتيجة أننا تابعنا على شاشات التليفزيون استغاثات لبعض الإعلاميين دعت المجلس العسكرى إلى التدخل لوقف زحف الإخوان وإمساكهم بمفاتيح ومفاصل الدولة. وشاهدنا رسوما كاريكاتورية سوغت الاحتماء بالعسكر واعتبرته أمرا مَّرا، وبررت ذلك بأن بديلهم (الإخوان) أكثر مرارة. فى توظيف للمثل الشائع الذى يقول فيه واحد لصاحبه ما الذى دفعك إلى المر، فرد عليه قائلا إنه الأمرّْ منه. إذا كان الإخوان قد خوفوا المجتمع فإن السلفيين أكملوا المشهد بترويعهم، للناس خصوصا أن الإعلام لم يقصر فى الفضح والاصطياد، حتى صَّور السلفيين وحوشا تتأهب للانقضاض على المجتمع وتقييد الحريات العامة والخاصة. وحينما وزعت عناصر حزب التحرير الإسلامى للافتات التى دعت إلى إقامة الخلافة فإنهم زادوا الطين بلة ودعوا القاصى والدانى إلى المسارعة بالانضمام إلى معسكر المذعورين والخائفين. فى النهاية صرنا بين خوفين يعذبان المصريين. خوف مؤكد من مبارك الآخر الذى خبرناه. وخوف مظنون من الإخوان والسلفيين الذين لم يحسنوا قراءة المشهد أو التعاطى معه. وأضيف إليهما خوفا ثالثا على الثورة التى غَّيبت فى خضم التجاذب وصراع القوة والنفوذ ــ لا أعرف إلى أى مدى ارتياح المجلس العسكرى لهذه الحصيلة، التى أوقفت حملة انتقاده فى وسائل الإعلام، وأقنعت البعض بأن نار العسكرى أفضل من جنة مبارك أو جنة الإخوان، كما عبرت عن ذلك بعض الرسوم الكاريكاتورية. وهناك من يتحدث عن أى من شأن ذلك التجاذب ليس فقط أن يطمئن المجلس العسكرى ولكنه ربما أفضى إلى إطالة أمد بقائه فى السلطة، وربما قوى مركزة بحيث حقق ما يريده فى نصوص الدستور. لابد أن نلاحظ أيضا أن بقية الأحزاب السياسية تعانى من الحيرة، ناهيك عن هشاشة بنيانها وقلة حيلتها. خصوصا فى ظل الشعور بأن الإخوان لم يستجيبوا لرغباتهم، وهو ما اعبتروه إقصاء لهم. بسبب من ذلك فإن بعضهم انحازوا إلى عمر سليمان إما مراهنة عليه أو كيدا فى الإخوان والسلفيين، البعض الآخر ومعهم ائتلافات الثورة رفضوا الاثنين، ولم يستقروا على صيغة للتوافق بعد. وربما تحقق ذلك إذا أعيد تشكيل لجنة وضع الدستور بحيث تصبح أكثر قبولا من الجميع. ما يهمنى فى كل ما يجرى ــ ويخيفى أيضا ــ هو مستقبل الثورة والآمال الكبار المعلقة عليها. ليس فى مصر وحدها، ولكن فى العالم العربى أيضا. لذلك فإننى أقترح حلا للإشكال يهدئ من روع الجميع ويبدد الخوف الذى ينتابهم. ذلك أن المرشحين جميعا حين تقدموا لخوض غمار المنافسة، قالوا لنا إنهم بذلك يلبون نداء الوطن. وإذا كانت رياح الخوف قد ضربت الوطن وأشاعت البلبلة فى أرجائه بعدما رشح الإخوان المهندس خيرت الشاطر، فإن تلك الرياح اشتدت وتحولت إلى إعصار عقب ظهور اللواء عمر سليمان فى الأفق، ولأن الأمر كذلك فإن اقتراحى المحدد هو أن يتنازل الاثنان عن الترشح لكى يسكن الإعصار وينزع فتيل الأزمة ويعود الهدوء إلى ساحة الوطن، لتواصل الثورة تقدمها، فيوضع الدستور وينتخب الرئيس ويعود العسكر إلى ثكناتهم، ليهدأ بال المصريين وتأوى «بهية» إلى فراشها قريرة العين. إن انسحاب الرجلين لإنقاذ الثورة والحفاظ على تماسك الجماعة الوطنية بات نداء الوطن وواجب الوقت.