مرض الشبهات - للشيخ : ( عبد الرحيم الطحان ) القلب يمرض كما تمرض الأبدان؛ بل قد يصيبه الموت فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، ومن أخطر أمراض القلوب: أمراض الشبهات التي تصيب القلب فتحرفه عن العقيدة والإيمان إلى الزيغ وترك الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وأمراض الشهوات، التي تفتح على الإنسان أبواب المعاصي والفتن والموبقات، وأعظمها شهوات البطون والفروج، والسعيد من عافاه الله تعالى من هذين المرضين القاتلين. تعريف المرض ومدى مرض القلب بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرةً وباطنةً وهو اللطيف الخبير، اللهم لك الحمد كله، ولك الملك كله، وبيدك الخير كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله الله رحمةً للعالمين، فشرح به الصدور، وأنار به العقول، وفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى به نبياً عن أمته، ورضي الله عن أصحابه الطاهرين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]، أما بعد: معشر الإخوة الكرام! إن الحديث الذي سنتدارسه في هذه المحاضرة بإذن ربنا الرحمن يدور حول مرضين عظيمين: مرض الشبهات، ومرض الشهوات، والموضوع جليلٌ وطويل، وقد كان في نيتي أن أتكلم، على هذين المرضين في هذه المحاضرة، لكنني عندما بحثت في كل واحدٍ منهما رأيت أن كل واحدٍ منهما خطير، والبلاء بسببه كثير، لذلك يصعب الكلام على المرضين في هذه المحاضرة، وإذا تدارسنا مرضاً من هذين المرضين، ووفيناه حقه على وجه الاختصار، فهذا من فضل ربنا العزيز الغفار، ولذلك سأتكلم على المرض الأول ألا وهو مرض الشبهات، وضبطاً لسير البحث بانتظام، سأتكلم على هذا الموضوع ضمن ست نقاط حسان: النقطة الأولى: تدور حول تعريف المرض وأقسامه، وأحوال الناس نحوه.النقطة الثانية: تدور حول بيان مرض الشبهات.النقطة الثالثة: تدور حول تحذير نبينا صلى الله عليه وسلم لنا من الوقوع في هذا المرض الخطير.النقطة الرابعة: تدور حول تتابع سلفنا الكرام في التحذير من هذا المرض الخطير.النقطة الخامسة: تدور حول أن هذا المرض عمّ انتشاره بعد موت نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلما امتدت الحياة بالناس زادت نسبة انتشاره.النقطة السادسة: حول أقسام مرض الشبهات، وحكم كل مرضٍ في الحياة وبعد الممات. أما النقطة الأولى: فالمرض معناه في اللغة يدور حول أمرين لا يخرج عنهما: فيأتي المرض بمعنى الفساد، كما قال ابن الأنباري ، ويأتي بمعنى النقصان كما قال ابن الأعرابي ، وهما متلازمان، فإذا أصيب الإنسان بمرضٍ فسدت أعضاؤه عن الإتيان بمهمتها التي خلقت من أجلها، وهذا نقصانٌ فيه أيضاً، والمرض كما يكون في الأبدان، ويقع على الأجسام، يكون في القلوب وفي الجنان أيضاً، كما وضح ذلك الإمام الزجاج عليه رحمة الله تعالى، وقد قرر ذلك الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان عليه رحمة ربنا الرحمن، قرر ذلك في غاية التقرير والإحسان فقال طالت محاسنه: إن كل عضوٍ من أعضاء الآدمي خلقه الله جل وعلا لوظيفةٍ معينة، بتلك الوظيفة يحصل كماله وصحته وشفاؤه، فاليد خلقها الله للقبض وللبطش، وللإعطاء وللمنع، فإذا كانت تقوم بتلك الأمور على وجه التمام فهي صحيحةٌ سليمةٌ ليس فيها مرض، وإذا تعذر عليها القيام بتلك المهام، أو تعثر عليها القيام بها على وجه التمام، وقع الإنسان في الفساد والنقصان، وهذا هو المرض، وهكذا القلب الذي في الإنسان له مهمتان عظيمتان، ينبغي للإنسان أن ينتبه لهما غاية الانتباه، ففي القلب مهمةٌ أولى وهي: العلم حتى يعرف الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، فيتبع الحق ويعرض عن الباطل، ففيه قوةٌ علمية، وفيه أيضاً قوة الإرادة والحب، فإذا عرف الحق ينبغي أن يريد العمل به، وأن يحب ذلك، فلو وجد في قلبه معرفةٌ صحيحةٌ تامةٌ كاملة، ثم أراد العمل بذلك الحق الذي عرفه مع الحب التام، فقلبه سليم، صحيح، وإلا فهو مريض.ولا ينجو أحدٌ عند الله جل وعلا إلا إذا كان سليم القلب، كما قال خليل الرب جل وعلا إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:87-89]، فقد شهد ربنا الكريم على أن خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه هو ممن اتصف بذلك الخلق الكريم، وهو صاحب القلب السليم، فقال جل وعلا في سورة الصافات: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ [الصافات:83]، أي: من شيعة نبي الله نوح وممن شايعه وآزره وسار على مسلكه في الدعوة إلى ربه جل وعلا، وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات:83-84]. ولذلك اتخذه ربنا جل وعلا خليلاً؛ لأنه جعل قلبه للرحمن، وجعل بدنه للنيران، وجعل ولده للقربان، وجعل ماله للضيفان: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، فلا بد من تمام القوة العلمية، ومن تمام القوة العملية، أي: إرادة العمل بذلك العلم النافع، فإذا اكتمل في القلب هذان الأمران فهو قلبٌ سليم، إذا عرف الحق على التمام كما شرعه ربنا الرحمن، ثم قام بموجب ذلك على غاية الكمال والإحسان، فالقلب سليم، والقلب صحيح، وإلا فهو مريض، كما أن اليد إذا لم تقم بوظيفتها فهي مريضة. اهتمام الناس بأمراض الأبدان وترك أمراض القلوب إخوتي الكرام! لقد اهتم الناس في هذا الوقت وبذلوا غايتهم بالعناية بهذه الأبدان، وقد قام المسئولون أيضاً في جميع البلدان بجعل موظفين يتناوبون في سائر ساعات الزمان ليراعوا هذه الأبدان، وهم الأطباء الذين هم في المستشفيات. وأما مرض القلوب فقد أصاب الأطباء مرضٌ عظيمٌ بسبب ابتلائهم بالشبهات والشهوات، وصار أكثر الخلق في مرض، ونسأل الله أن يلطف بحالنا، والسعيد هو الذي يعتني بقلبه لا ببدنه، والمؤمن هو الذي يخاف من موت قلبه لا من موت بدنه.عباد الله! إنما يحل بالأبدان من أسقام يؤجر عليها الإنسان، والمعتمد عند أئمة الإسلام أن الإنسان إذا أصيب بمرضٍ في بدنه وصبر فهو أفضل له عند ربه، وإذا تداوى فالتداوي رخصةٌ فقط، والعزيمة هي الصبر، ثم له بتلك المصيبة أجرٌ عظيم إذا أصيب بمرضٍ في بدنه؛ لأن هذا من باب المصائب التي يؤجر عليها المؤمن، ثبت في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى والبزار وصحيح ابن حبان بسندٍ صحيحٍ عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمرض مؤمنٌ ومؤمنة إلا كفر الله عنهما خطاياهما كما تسقط الورقة عن الشجرة)، تسقط عنهما الخطايا والذنوب بسبب المرض الذي حلّ بالأبدان. ومن علامة كرامة المرء عند الرحمن أن يصاب بمرضٍ في بدنه، وإذا لم يصب فليبك على نفسه، وليعلم أنه ليس ممن له عند الله حظٌ وشأن، ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ رجاله ثقات عن أنس بن مالك رضي الله عنهما: (أن امرأةً جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ابنتها، وعرضتها عليه، وذكرت له من حسنها وجمالها، ثم قالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! قد آثرتك بها، فقال: قد قبلتها، فما زالت تثني عليها حتى قالت: إنها لم تصرع قط، ولم تشتك أبداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي بها)، لو أحبها الله لابتلاها، (لا حاجة لي بها)، انتهى. وأعرض نبينا صلى الله عليه وسلم عن نكاحها، وعن زواجها. والآن الناس بذلوا عنايتهم في الأبدان، وأهملوا القلوب التي هي محل معرفة الرحمن، والمؤمن هو الذي يخاف من موت قلبه لا من موت بدنه، وإذا أصيب الإنسان في بدنه فهو مأجور، وإذا أصيب في قلبه فهو موزور، إذا قتلك العدو الظاهر وغلبك في جسدك مت شهيداً، وإذا غلبك العدو الباطني واستولى على قلبك عن طريق الشبهات والشهوات مت قريباً، ولذلك كان من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله أنه كان يردد مراراً فيقول: المحبوس من حبس قلبه عن الله، والمأسور من أسره هواه، ووالله إن عبد الشهوة أذل من عبد الرق، فهذا القلب لا يحصل له الصحة والتمام إلا إذا اكتملت فيه هاتان القوتان: معرفةٌ للحق وتمييزٌ له من الباطل، ثم إرادة العمل بالحق مع الحب التام له والبعد عن الباطل.إخوتي الكرام! وإذا لم يحصل هذان في قلب الإنسان فسيحصل ما يضادهما ولا بد، فإذا لم يعرف الإنسان الحق ففي قلبه الشبهات والوساوس، وإذا لم يكن فيه قوةٌ دافعةٌ لحبه الحق والعمل به، فسيكون في القلب قوةٌ دافعةٌ لفعل الباطل ومحبته ولا بد، فالإنسان حارثٌ همام مكتسبٌ مريد، وهذا لا ينفك عن أي إنسان، وأحسن وأصدق وأتم ما يوصف به الإنسان الذي ينطبق عليه غاية الانطباق أنه حارث مكتسبٌ فاعل، إما أن يفعل الفضائل أو الرذائل، وأنه همام، نيته دائماً تهم وتميز وتريد، فإما أن تدور حول العرش، وإما أن تدور حول الحش، وهو البستان، ويطلق أيضاً على موضع الخلاء والتبرز؛ لأن العادة أن ذلك الأمر يقضى في ذلك المكان، فالهمة إما أن تدور حول العرش، وإما أن تدور حول الحَش -بفتح الحاء- فالقوتان لا تتعطلان في قلب أي إنسان، فهو حارثٌ همام . ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود بسندٍ حسن عن أبي وهب الجشمي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تسموا بأسماء الأنبياء، وأحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارثٌ وهمام، وأقبحها حربٌ ومرة)، أصدق الأسماء الذي ينطبق فيه الاسم على المسمى تمام الانطباق حارث، أي: مكتسب، وكل إنسانٍ يكتسب، ( كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه فمعتقها أو موبقها )، لا يخلو الإنسان من عمل، إما أن يعمل فضيلةً أو رذيلة، إما أن يشغل نفسه بحقٍ أو بباطل، ولا يخلو من همٍ ونيةٍ وإرادة، فأصدق الأسماء حارثٌ وهمام، ولذلك إذا شغل الإنسان نفسه بالحق فقلبه سليم، وإلا فقلبه سقيم، ولا واسطة بين الأمرين، سليمٌ أو سقيم، صحيحٌ أو عليلٌ مريض. حال صاحب القلب المريض عباد الله! وإذا لم يعرف الإنسان الحق ولم يرد العمل به فهو مريضٌ، ولو حصل سائر العلوم وتمتع بسائر أنواع اللذات، فمن عرف كل شيءٍ ولم يعرف الله فماذا عرف؟ ومن حصل كل شهوةٍ ولم يتلذذ بمناجاة الله فماذا حصل؟ لكل شيءٍ إذا ضيعته عوضوما من الله إن ضيعته عوض بل إن تلك اللذات والمعارف تنقلب سموماً مهلكات، وهي من أعظم المكدرات في هذه الحياة الدنيا على المخلوقات لو شعروا وزال عنهم حجاب الغفلات، وهذا قرره ربنا رب الأرض والسموات في محكم الآيات، ففي سورة التوبة يقول ربنا جل وعلا: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، ثم كرر ربنا جل وعلا الآية بعد عشرين آيةٍ تقريباً في نفس السورة مع اختلافٍ يسير، فقال جل وعلا: وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:85]، ولا بد من فهم الآية فهماً يتناسب مع دلالتها، كيف يعذب الإنسان بماله وبولده إذا انحرف عن شرع ربه؟ذكر أئمة سلفنا الكرام في تفسير الآية معنيين: الأول: في منتهى البعد عن ألفاظها وعن روحها، وهو المنقول عن قتادة عليه رحمة الله، قال: في الآية تقديمٌ وتأخير، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، أي: ما يتمتعون به في الحياة الدنيا من أموالٍ وأولاد فلا يعجبك هذا أيها المكلف! وأيها المهتدي! إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:85]، فهم على هذا القول لن يحصل عذابٌ لهم في الدنيا بأموالهم وأولادهم، وهذا القول في منتهى البعد، كما بين هذا الحافظ ابن كثير عليه رحمة ربنا الجليل.وقال الإمام الرازي : إن هذا التفسير ليس بشيء، وقال الإمام ابن القيم : من قال: إنه في الآية تقديمٌ وتأخيرٌ لم يصب، والمعنى الحق ما ثبت عن جابر بن زيد ، وعن الإمام الحسن البصري عليه رحمة الله، قال ابن كثير : وهو تفسيرٌ قويٌ حسن، وهو الذي قرره أئمة التفسير عليهم رحمة الله، أن قوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ [التوبة:55]، أي: لا تعجب بها، إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [التوبة:55]، فهم يعذبون بأموالهم وأولادهم عندما تنطمس قلوبهم، وتنعكس بصائرهم، وينحرفون عن شرع ربهم، هذه النعم التي يتلذذون بها يعذبون بها في الدنيا، وسأبين كيفية العذاب، والله لو شعر بها أهل الثبات لاستغاثوا من عذابهم ولجاءوا إلى ربهم جل وعلا، فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:55]، فالعذاب واقعٌ في الحياة الدنيا، وهذا من ثلاثة وجوه: الوجه الأول: إذا حصل الإنسان نعيم الدنيا فسيعذب به إذا انحرف عن شرع ربه جل وعلا، ويتحقق عذابه بأربعة أمور: الأمر الأول: يشقى، ويتعب، ويهلك، وينصب في جمعه وفي تحصيله.الأمر الثاني: يهتم ويغتم بالمحافظة عليه من سرقةٍ وغير ذلك.الأمر الثالث: يألم لفراقه.الأمر الرابع: يتحسر لمفارقته.فهو في هم في حال جمعه، وفي حال المحافظة عليه، وفي حال الخوف من ضياعه، وفي حال بعد ذلك فراقه عند الموت يتحسر، يتحسر عند فراقه، ويألم لفواته، ويغتم ويهتم لحفظه، ويشقى في كسبه، وليس بعد هذا الشقاء شقاء، وإذا لم يحصل شيئاً من الدنيا -وهي نيته وهمه- حزن على فراقها، وهذا شقاءٌ ليس بعده شقاء. والأمر الثالث في الحالين: سواءٌ حصلت له الدنيا أم لا؟ قسا قلبه، وما ذاق حلاوة مناجاة ربه جل وعلا، وهذه أعظم عقوبةٍ عوقب بها في الحياة الدنيا، فما ارتفع مستواه عن مستوى البهائم التي يكد عليها في سائر الأوقات، ولا تعرف طعماً ولا لذةً في هذه الحياة، وهو بعد ذلك إذا انتقل إلى قبره بعد الممات سيلقى ما يشيب منه الولدان، فالبهائم في هذه الصورة أحسن حالةً منه؛ لأنها إذا ماتت انتهى شقاؤها وعذابها وجحيمها، ولذلك إذا ابتعد الإنسان عن شرع الله فإنه يعذب بماله وبولده وبما يتلذذ به من نعيم، كما قال ربنا جل وعلا: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر:19]، سبحان الله العظيم! أنساهم أنفسهم، إي والله! إن حياة المعرض عن شرع الله أخس من حياة الحيوانات العجماوات أنساهم أنفسهم، أنساهم حياتهم الحقيقية، والتمتع بذكر رب البرية: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [التوبة:67].وفي سورة الأعراف يقول ربنا جل وعلا: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ [الأعراف:50-51]، نسوا الله فنسيهم، والنسيان هنا على حقيقته إخوتي الكرام! وربنا الرحمن جل وعلا يوصف بذلك، وقد سمعتم ما جرى من مهاتراتٍ في السنة الماضية على بعض صحف المجلات هنا وهناك مما ينبغي أن تتنزه عنه الأسماع، فقد جهلنا لغة العرب، وما تأدبنا مع الرب، يقول أحدهم: إن الله لا يوصف بالنسيان، ويريد أن يستغل هذا الجانب ليؤول سائر صفات ربنا الرحمن، يا عبد الله ! لو كنت تفهم لغة العرب لما قلت هذا، النسيان يطلق لمعنيين، واحدٌ منهما لا يوصف به قطعاً رب الكونين، والثاني وصف الله به نفسه في محكم الآيات، فرده يعتبر من الشطط، وهو خلق أهل السفاهات: المعنى الأول للنسيان: بمعنى ذهاب الشيء من الذهن، وغيبوبة الذهن عن الشيء، فهذا لا يوصف به ربنا جل وعلا، قال تعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم:64]، لا يعجز عنه مثقال ذرةٍ في السموات ولا في الأرض. ويأتي النسيان بمعنى الترك، وهذا يوصف به ربنا جل وعلا، كما في قوله: (فاليوم ننساهم): أي: نتركهم في نار جهنم، (كما نسوا لقاء يومهم هذا)، (نسوا الله فنسيهم)، أي: تركوا شرعه، وما غاب ذهنهم عنه، إنما محادةً ومشاقةً وعناداً وجحوداً نسوا الله، تركوا شرعه، فنسيهم، فالجزاء من جنس العمل، فتأدب -أيها الإنسان- مع ربنا الرحمن جل وعلا، وإذا وصف نفسه بشيءٍ فحذار حذار من إدخال العقول للتلاعب بتلك الصفة التي وصف بها ربنا جل وعلا نفسه. (نسوا الله)، أي: تركوا شرعه، والعمل بهديه، (فنسيهم)، أي: تركهم في عذاب جهنم، (أولئك هم الفاسقون). شقاء صاحب القلب المريض بما معه من متاع الدنيا عباد الله! وإذا تأمل الإنسان حال المعرض عن شرع الله الذي فسدت في قلبه القوة العلمية والقوة الإرادية علم أنه يشقى بما يحصله من نعيم، وأن ذلك النعيم هو جحيمٌ عليه في الدنيا قبل يوم الدين، يقول الله جل وعلا في سورة القلم: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، فهذه صفة الإنسان إذا انحرف عن شرع الله جل وعلا، ولا ينجو من هذا الوصف إلا من عرف الحق واتبعه، وأما وصف الإنسان بالأصل فهو على هذه الشاكلة، إذا انحرف عن شرع الله، وما زكى نفسه بنور الله، كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، وما حصل للنمرود ولـقارون ولغيرهما من عتاة الأرض في القديم والحديث بسبب مالهما لا يخفى عليكم. وهكذا أولاده إذا لم ينشئهم على التنشئة الصالحة، ولم يكن القصد منهم وجه الله جل وعلا عذب بهم في الدنيا قبل الآخرة.ثبت في مستدرك الحاكم ومسند البزار بسندٍ رجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع عليه رحمة الله، عن الأسود بن خلف رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الولد مبخلةٌ مجبنةٌ مجهلةٌ)، زاد الحاكم في روايته: (محزنة)، (الولد مبخلةٌ)، أي: سببٌ للبخل، (مجبنة): سببٌ للجبن، يدعوك لعدم الكلام بالحق، ولعدم الجهاد في سبيل الله، إذا كان المقصود من الولد غير شرع الله، ولم ينشأ على تربية الله، وما أردت منه وجه الله، فهو مجبنةٌ مجهلةٌ، سببٌ للجهل، يدعوك التعلق به للبعد عن العلم وعن مذاكرة ما ينفع، (محزنة): يدعوك إلى الحزن، الولد في الأصل يجر لوالده هذه الأمور، إلا إذا كان الإنسان يسير حياته مع أولاده على حسب شرع ربه جل وعلا، فلا يحمله الولد على الجبن، ولا على البخل، ولا على الجهل، ولا على الحزن، هذه الصفات لا ينجو منها إلا من طهر نفسه بشرع الله، كما قال الله جل وعلا في نظائر هذا: إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم:34]، إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6]، هذه هي الطبيعة الإنسانية، وهذه هي طبيعة الولد عندما ينحرف الإنسان عن شرع رب البرية، يعذب بولده، فيحمله على الجبن، وعلى البخل، وعلى الجهل، وعلى الحزن، وإذا كان المقصود منه وجه الله جل وعلا، وزكى نفسه بشرع الله، وسلم قلبه من مرض الشبهات والشهوات، صار الأولاد قرة عين له: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، هذا من دعاء عباد الرحمن فعباد الرحمن لا يكون أولادهم في حقهم سبباً لجبنهم، ولا لحزنهم، ولا لجهلهم، إنما هم قرة عينٍ ينفعونهم وينتفعون، فمن انحرف عن شرع الله فسيعذب بما يحصله من نعيم.ثبت في سنن الترمذي وابن ماجه وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم بسندٍ صحيح أقره عليه الذهبي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20]، ثم قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم يا ابن آدم! تفرغ لعبادتي. أملأ صدرك غنىً، وأسد فقرك، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك)، والغني هو غني النفس وإن كان قليل العرض، والفقير هو فقير النفس وإن كان كثير العرض. يتبع
رد: مرض الشبهات - للشيخ : ( عبد الرحيم الطحان ) ضرورة الاهتمام بالقلب وصلاحه فهذا القلب فيه هاتان القوتان، لا بد من اكتمالهما في الإنسان لتحصل له الحياة السليمة الصحيحة على وجه التمام في هذه الحياة، وليترتب له بعد ذلك الأجر الكبير عند الله جل وعلا بعد الممات، فلا بد من الاعتناء بهذا القلب، وبهاتين القوتين فيه: قوةٌ علميةٌ، وقوةٌ إرادية، والفساد في واحدٍ منهما وقوعٌ في الشهوات أو في الشبهات، وإذا صلح القلب فهو الملك صلحت سائر الأعضاء، كما ثبت في الكتب الستة عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهات لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). وصلاحها -كما قلنا- بمعرفة الحق والتمييز بينه وبين الباطل، وهذه هي القوة الأولى فيه، والثانية: بإرادة العمل بالحق وحبه له، وبالبعد عن الباطل وبكراهيته له، فإذا صلح القلب صلحت سائر الأعضاء، وإذا فسد القلب فسدت سائر الأعضاء. أسباب مرض القلوب لقد قرر علماؤنا الكرام أن سبب فساد القلب أمران اثنان: الأول: غفلةٌ عن الحق، وهذا الذي يضاد القوة العلمية التي يميز بها بين الحق والباطل، وتكون بسبب ما في القلب من شبهات وأهواء.الثاني: كسلٌ عن فعل الحق، وتكون لما في القلب من ميلٍ إلى الشهوات، وعلى هذا فمنبع الآفات شبهاتٌ وشهوات، غفلةٌ وكسل، إذا أصيب الإنسان بالغفلة عن الحق التقم الشيطان قلبه ووسوس له، وأوقع فيه الشبه، وإذا كان في القلب بطالة ودعة وخلودٌ للشهوات فقد ابتعد عن فعل الحق وتلبس بالباطل، غفلةٌ لوقوعه في الشبهات، وكسل لوقوعه في الشهوات، الآفات كلها تدور حول هذين الأمرين: كسلٌ وغفلة، شبهاتٌ وشهوات، وهذا الأمر الذي قرره علماؤنا الكرام أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام.ففي مسند الإمام أحمد ومسند البزار ومعاجم الطبراني الثلاثة: الكبير والأوسط والصغير بسندٍ رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي عليهم جميعاً رحمة الله، عن أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى)، لا أخاف عليكم إلا هذا الأمر، بأداة الحصر، إذا سلمتم منه سلمتم من كل آفة، (إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم)، وهذا هو مرض الشهوات، مرض الشهوات الكسل عن فعل الحق والطاعات لما تلبس به القلب من شهوات، شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، (ومضلات الهوى)، وهو مرض الشبهات. مرض الشهوات وكل من هذين مرضٌ بنص القرآن، أما الشهوات فقد قرر الله أنها مرض في محكم كتابه، فقرر هذا في سورة الأحزاب في مكانين: المكان الأول يقول الله جل وعلا فيه: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب:32]، (فلا تخضعن بالقول): لا ترققن الكلام إذا تكلمتن مع الرجال، والخطاب لمن؟ لأمهاتنا أزواج النبي عليه وعليهن صلوات الله وسلامه، (فلا تخضعن بالقول) في حال مخاطبتهن لمن؟ لأطهر خلق الله بعد النبيين والمرسلين وهم الصحابة، إذا تكلمت يا عائشة ويا أم سلمة مع الرجال فلا ترققي قولك، ولا ترققي صوتك، (فيطمع الذي في قلبه مرض)، أي: شهوة الزنا باتفاق المفسرين، (فيطمع الذي في قلبه مرض)، مرض الشهوات. ولذلك قرر علماؤنا الكرام أن المرأة إذا كلمت الرجال فينبغي أن تخشن صوتها ما استطاعت، وإذا كان في صوتها عذوبةٌ شديدة فينبغي أن تضع أصبعها في فيها أو حصاةً إذا كلمت الرجال، وهذا الأمر صار في هذا الوقت في منتهى الغرابة؛ لأننا في زمن الغربة، المرأة إذا كلمت الرجال تضع أصبعها في فيها وتقول: ماذا تريد أيها الرجل؟ وليس في هذا غضاضة، وليس في هذا حرج، وهذا خلق نساء المسلمين الطاهرات، خلق الصالحات في جميع الأوقات، (فلا تخضعن)، لا ترققن، لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، سبحان الله! إذا كان هذا الخطاب موجه لأمهات المؤمنين التي يحرم نكاحهن على أحدٍ بعد نكاح نبينا صلى الله عليه وسلم لهن، فكيف الحال الآن؟! أنا أحار من أمر الناس في هذا الوقت! كيف وصل ببعضهم الانحراف، فهذه تقوم تتخنث فوق خنوثتها، وتتكسر فوق ما فيها من تكسرٍ وليونة في الغناء وفيما شاكل هذا من الأخبار. فالشهوات مرضٌ بنص القرآن.وفي آخر سورة الأحزاب يقول ربنا الرحمن عن مرض الشبهات: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ [الأحزاب:60]، لنسلطنك عليهم، ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا * سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:60-62]. (لئن لم ينته المنافقون)، أي: المصابون بمرض الشبهات، (والذين في قلوبهم مرض)، المصابون بمرض الشهوات، الذين كانوا يتتبعون النساء إذا خرجن لقضاء الحاجات، لئن لم ينته المنافقون وأصحاب الشهوات، (لنغرينك بهم)، لنسلطنك عليهم لتعاقبهم أشنع عقوبة، (ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً، ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً).فالشبهات مرضٌ بنص القرآن، والشهوات مرضٌ بنص القرآن، وهاتان آيتان من سورة الأحزاب تشهدان على أن الشهوات مرضٌ من أشنع الأمراض. مرض الشبهات وأما الشبهات فقد كثرت الآيات في وصفها بأنها مرض، ففي أول سورة البقرة يخبر الله جل وعلا عن مرض الشبهات فيقول: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10]، (في قلوبهم مرض)، مرض الشبهات، وعدم التمييز بين الحق والباطل، وعدم معرفته.وفي سورة المائدة يقول ربنا جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم [المائدة:51-52]، وهم المنافقون الذين يتولون اليهود والنصارى، الذين يتولون أعداء رب العالمين، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ [المائدة:52]، أن تنزل بنا مصيبةٌ وكارثة، فهيئة الأمم الملحدة هي أعظم قوةٍ في الأرض، فلا بد من موالاتها والسجود بين أرجلها، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ [المائدة:52]. اللهم افتح علينا وافتح لنا بالحق يا رب العالمين! وقرر الله أن الشبهات مرض في سورة محمد عليه صلوات الله وسلامه في مكانين فيها، يقول جل وعلا: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [محمد:20]، وهم المنافقون، يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [محمد:20-21]. ثم يقول جل وعلا في نهاية السورة: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ [محمد:29-30]، وهذه الآية -إخوتي الكرام- ذكرها ربنا جل وعلا بعد موالاة الكافرين اللئام، وأخبر ربنا جل وعلا أن من تولى غير المؤمنين فهو ممن في قلبه مرضٌ وهو منافق، والله سيخرج ما في قلبه، وسيعاقبه عليه، يقول ربنا جل وعلا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، صارت الشبهات حاجزاً بين القرآن وبين القلوب، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:25]، لم ارتدوا يا رب العالمين؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ * أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ [محمد:26-29]. فالشبهات مرضٌ بنص القرآن، وفي سورة التوبة يقول ربنا جل وعلا في آخرها: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة:124-125]، والقائل هنا هم المنافقون كما قرر هذا سلفنا الكرام، (فمنهم) أي: من المنافقين (من يقول) لبعضهم: (أيكم زادته هذه إيماناً؟) وهم ليسوا بمؤمنين، إنما يقولون هذا من باب الاستهزاء بالمؤمنين، أو أنهم يقولون هذا لضعفاء الإيمان في العصر الأول، الذين هم حديثو عهدٍ بالإيمان يدخلون إليهم من هذه الشبه، أيكم زادته هذه إيماناً؟ فأخبرنا الله جل وعلا أن الذين آمنوا زادتهم إيماناً وهم يستبشرون، وأما هؤلاء فزادتهم رجساً وشبهاً إلى شبهاتهم وماتوا وهم كافرون. أصناف الناس تجاه الشبهات والشهوات السالمون من الشبهات والشهوات الناس تجاه الشبهات ثلاثة أقسام: القسم الأول: وهو خلاصة عباد الله وصفوته من خلقه، من سلم منهما فلا شبهات؛ لأنه عرف الحق، ولا شهوات؛ لأنه اتبع الحق وعمل به، فعرفه وميز بينه وبين الباطل، فعمل بالحق وترك الباطل، فهو سالمٌ من الأمرين، سالمٌ من الشبهات والشهوات، هؤلاء هم خير البرية، قال الله جل وعلا في سورة البينة: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [البينة:7]، سلموا من مرض الشبهات، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [البينة:7]، سلموا من مرض الشهوات، فلا شبهات عندهم لأنهم عرفوا الحق، ولا كسل فابتعدت عنهم الشهوات، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة:7]، فمن سلم من الشبهات والشهوات فهذا هو خير البرية عند رب الأرض والسموات، وإذا سلم من هذين المرضين في هذه الحياة فليبشر نفسه بنعيم الجنات وبالخاتمة الحسنى عند الممات.ثبت في صحيح ابن حبان ومسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير بسندٍ صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فتان القبور -منكر ونكير اللذان يمتحنان الناس بعد موتهما- ذكر فتان القبور، فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! أترد علينا عقولنا في ذلك الوقت عندما نكون في القبر، ترد علينا عقولنا كما نحن الآن، ونستطيع أن نميز بين الشبهات والشهوات، بين الحق والباطل؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم، كهيئتكم اليوم، فقال عمر رضي الله عنه: إذاً بفيه الحجر)، لو جاء جنود السموات والأرض ليمتحنوا الذي سلم من الشبهات والشهوات فلا يبالي، إذاً بفيه الحجر لا يضرنا، إذا كان معنا هذا العقل الذي هو معنا في هذه الساعة، ونحن الآن قد غلبنا الشيطان، وابتعد عنا، فلا شبهات ولا شهوات، لو اجتمعت ملائكة الله الكرام لتمتحننا لا نبالي، وهذا لا يقوله إلا من كان يبتعد من الشيطان في هذه الحياة، فلا شبهات ولا شهوات، ويبتعد منه الشيطان. وهذا وصف عمر ووصف الصديقين في سائر الأزمان، ثبت في الصحيحين من رواية عدةٍ من الصحابة الكرام رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـعمر : (يا عمر ! والذي نفسي بيده! ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)، والذي نفسي بيده! ما رآك الشيطان تمشي في طريق إلا انحرف ومشى في طريقٍ آخر خوفاً منك، وإذا كان ربنا جل وعلا حفظ السماء بالنجوم، وجعلها رجوماً للشياطين، فلا يستطيع الشياطين الاقتراب منها لئلا يسترقوا السمع، فوالله إن قلب المؤمن الذي سلم من الشبهات والشهوات أعظم من السموات، وهو محفوظٌ بأنوار رب العالمين، فلا يستطيع الشيطان أن يقترب منه، وإذا اقترب احترق، (ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك)، ومن بلغ هذه الدرجة يستأهل أن يقول: إذاً بفيه الحجر، لا نبالي به، فليمتحنا بما يريد، هؤلاء هم خير البرية. الضالون بسبب الشبهات والشهوات يقابل هذا وهم شر البرية، الذين جحدوا الحق وامتلأت أذهانهم بالشبهات، ثم قاموا بفعل الشهوات في جوارحهم، فهم شر البرية، شر البرية من تلبس بالشبهات والشهوات، وهؤلاء يضيقون الديار، ويغلون على العباد الأسعار، وهم في صورة الإنس، وحقيقتهم أنهم شياطين، كما قال البحتري : لم يبق من جل هذا الناس باقيةٌ ينالها الوهم إلا هذه الصور لم يبق من أكثر الناس الموجودين باقيةٌ ينالها الوهم، الذهن والخيال والتفكير إلا الصور، أما هم فانسلخوا عن حقيقتهم الإنسانية، لتلبسهم بالقاذورات، بالشبهات والشهوات، لم يبق من جل هذا الناس باقيةٌ ينالها الوهم إلا هذه الصور. واعلم بأن عصبة الجهالبهائمٌ في صورة الرجاللا بأس بالقوم من طولٍ ومن عظمجسم البغال وأحلام العصافير لا تخدعنك اللحى ولا الصورفتسعة أعشار من ترى بقر تراهم كالسحاب منتشراًوليس فيه لطالبٍ مطرفي شجر السرو منهم شبهٌله رواءٌ وما له ثمرورحمة الله على من قال: ذهب الرجال المقتدى بفعالهموالمنكرون لكل أمرٍ منكروبقيت في قومٍ يزكي بعضهم بعضاً ليدفع معورٌ عن معور أبني إن من الرجال بهيمةًفي صورة الرجل السميع المبصر فطنٌ لكل مصيبةٍ في مالهوإذا أصيب بدينه لم يشعرهؤلاء هم شر البرية.ولا نذهب بعيداً، ونذكر قول الشعراء، ولا نذكر قول رب الأرض والسماء في هذا الصنف من السفهاء، الذين انغمسوا في الشبهات والأهواء، يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179].ويقول جل وعلا: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان:43-44].ويقول الله جل وعلا: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171]، ويقول جل وعلا: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة:5].ويقول جل وعلا: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:175-176].وقد قرر ربنا جل وعلا أن من اتصف بشيءٍ من الشبهات والشهوات فحكمه حكم العجماوات، وهو شر البرية، يقول جل وعلا في سورة الأنعام: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38].ومن جليل وبديع ما قاله الإمام ابن عيينة في تفسير هذه الآية، ونقله عنه أبو سليمان الخطابي في كتاب العزلة، ونوه بهذا المعنى الإمام ابن القيم في مدارج السالكين في عدة أماكن، قال: (إلا أممٌ أمثالكم)، أي: في الصفات، وأنتم توافقونها، ففيكم من صفته كصفة الحمار، وكصفة الثعبان، وكصفة الكلب، وكصفة الأسد المفترس، ونحو ذلك على حسب ما يقوم به من صفات، قال أبو سليمان الخطابي : ووجه ذلك أن الله جل وعلا عندما قال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، لما امتنع هذا من حيث الصورة الظاهرة، فالبهائم ليست مثلنا ولا توافقنا في الصورة، وامتنع هذا من حيث حصول المعارف واللسان، لم يبق إلا أنها مثلنا، والبشر يماثلونها في الصفات وفي الأخلاق، فمن انحرف عن شرع الله وتلبس بالشبهات والشهوات فله نظيرٌ في بعض هذه العجماوات كما قرر هذا رب الأرض والسموات. هذا الصنف هو أخبث الأصناف: من اتصف بالشبهات والشهوات، لا يمكن أن يفيق من هذا إلا إذا أقلع عن غيه عن شبهاته وشهواته، وما دام متلبساً بهذين المرضين فعلاجه عسيرٌ عسير.. سكرانٌ سكر هوى وسكر مدامةٍومتى إفاقة من به سكران سكران سكر هوى شبهات، وسكر مدامة شهوات، ومتى إفاقة من به سكران؟ وإذا اتصف الإنسان بهذين المرضين فهو شرٌ من إبليس، كما قال بعض هؤلاء يخبر عن حقيقته ممن اتصف بالشبهات والشهوات: وكنت امرأ من جند إبليس فارتقىبي الحال حتى صار إبليس من جندي فلو مات قبلي كنت أحسن بعدهطرائق فسقٍ ليس يحسنها بعدينسأل الله جل وعلا أن يحفظنا من مرض الشبهات والشهوات، وأن يجعلنا من الصنف الأول إنه سميع الدعوات.
رد: مرض الشبهات - للشيخ : ( عبد الرحيم الطحان ) الذين خلطوا بين الحق والباطل وابتلوا بشيء من الشبهات والشهوات الصنف الثالث من الناس -نسأل الله جل وعلا أن يلطف بحالنا، وألا يجعلنا من الصنف الثاني، وإن كنا نخوض بأحوال الصنف الثالث- هم من خلطوا بين الحق والباطل، بين الشبهات والحق، وبين الشهوات والعمل الصالح، اعترفوا بذنوبهم، خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فللشيطان في قلوبهم إدبارٌ وإقبال، والحرب بين من هذا شأنه وبين الشيطان دولٌ وسجال، وما دام العبد يشعر بكراهيته لما يقع في قلبه من شبهات ومن شهوات، فلا زال عنده خيرٌ يرجى له به حسن الخاتمة عند الممات، وإذا انطمس على قلبه وضرب الران وخالطته الشبهات وما عرف حاله، وتلبس بالشهوات وما كره ذلك، فليعلم أن هذا ليس من الصنف الثالث، إنما هو من الصنف الثاني نسأل الله العافية، فإذا كان الإنسان يتلبس بأحد هذين المرضين، ويشعر بهما، فإنه يرجى له الخير وحسن الخاتمة.ثبت في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أناساً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (إنا نجد في أنفسنا ما نتعاظم أن تكلم به -مما يلقيه الشيطان من وساوس في كثيرٍ من الأذهان- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أوجدتموه؟ ذلك صريح الإيمان)، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان)، والحديثان يحتملان أمرين لا ثالث لهما: الأول: ما قاله الإمام النووي عليه رحمة الله: أن سبب الوسوسة وجود الإيمان فيكم، فذلك محض الإيمان، أي: وجود الإيمان فيكم يدعو الشيطان للوسوسة في قلوبكم ليزيحكم عن هذا الإيمان، فلو لم يكن في القلوب إيمان لما وسوس، ولكن الإيمان ليس على وجه التمام، كما هو الحال في أهل الصنف الأول، إنما أنتم أصحاب إيمان، وأما إذا كان القلب خرب فهذا لا يوسوس الشيطان فيه؛ لأن صاحبه شيطان، ولذلك لما قيل لـابن عباس رضي الله عنهما: إن اليهود يزعمون أنهم لا يوسوسون في صلاتهم، قال: صدقوا، وماذا يفعل الشيطان بالقلب الخرب؟ فإذا كان الإنسان عنده إيمان ما بلغ وجه التمام، فإنه يوسوس له الشيطان ليصده عن ذلك الإيمان، فوجود الإيمان عندكم سببٌ لهذه الوسوسة، فحاولوا أن تقووا يقينكم وعملكم الصالح لترتقوا إلى الصنف الأول، ويزول عنكم هذه الخواطر الرديئة. والمعنى الثاني قاله القاضي عياض عليه رحمة الله، قال: شعوركم بالوسوسة، وإحساسكم بها، ونفوركم منها، دليلٌ على إيمانكم، فلو كنتم ممن طمس على قلوبكم، وفسدت قلوبكم، ما شعرتم بهذه الوسوسة كما هو حال الصنف الثاني، وعلى هذا فالإيمان سببٌ للوسوسة، والشعور بالوسوسة علامةٌ على وجود الإيمان. هذه أحوال الناس نحو هذين المرضين، فهم يدورون حول هذه الأقسام الثلاثة: خالٍ منهما، متلبسٌ بهما، فيه شيءٌ منهما، نسأل الله أن يمن علينا بفضله، وأن يجعلنا من الصنف الأول إنه جوادٌ كريم، هذا فيما يتعلق بالنقطة الأولى، ولعلها أوسع النقاط. ومرض الشبهات أخطر الأمراض التي تصيب القلب فتصده عن دين الله تعالى، وبسببه يسير الإنسان متبعاً هواه وأهواء المضلين، تاركاً شرع ربه وراء ظهره، ومن أخطر الشبهات على الإنسان شبهات البدع في الدين، إما بالزيادة فيه أو النقصان منه بقصد التقرب إلى الله تعالى بذلك، والبدعة معصية لكنها أحب إلى إبليس من المعاصي الأخرى؛ لأن صاحبها يتقرب بها إلى الله بزعمه على خلاف المعصية، ومنها ما هو كفر مخرج من الملة، ومنها دون ذلك.. بحسب مخالفتها وبعدها عن الدين. المقصود بمرض الشبهات بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.النقطة الثانية هي مرض الشبهات يقصد بمرض الشبهات: أن يسير الإنسان على هواه دون السير على شرع ربه جل وعلا، وقد ذكرت أن في القلب قوتين: قوةٌ علميةٌ، وقوةٌ إرادية، إذا فسدت القوة العلمية وقع في الشبه، وإذا فسدت القوة الإرادية وقع في الشهوات، فصاحب الشبهات على هواه دون شرع مولاه، فلا يميز بين الحق والباطل، بل يميل إلى الباطل، وأبرز ما يوضح هذا أمران اثنان: النفاق، وهذا من أمراض الشبهات الخبيثة. والثاني: البدع، وهذا من الشبه الخبيثة، وقد مضى الكلام على النفاق في محاضرةٍ سابقة، وسأتكلم الآن على البدع المحدثة في هذه المحاضرة إن شاء الله. تعريف البدعة وحقيقتها يقصد بالبدعة: ما أحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، ما أحدث في دين الإسلام وأدخل فيه، إما أنه زاد وإما أنه نقص، وعلى هذا فالبدعة في حقيقتها معصية، ولكن صاحبها لا يرى نفسه عاصياً لله جل وعلا، فهو يفعل المعصية، ولكن يقول: إنها مباحة، وقد يصل به الحال إلى أن يقول: إنها مستحبة، هذا هو مرض الشبهات، فما ميز بين الحق والباطل، فأعطى للباطل حكم الحق، ففعل الباطل وأدخله في شرع الله جل وعلا، هذا معنى البدع: الحدث في دين الإسلام عن طريق الزيادة أو النقصان، فهي معصية، ولكن صاحبها لا يرى أنها معصية، وتكون بالاعتقاد إذا فعل خلاف الحق، وتكون بالعمل إذا تعبد الإنسان بما لم يأذن به الله عز وجل. طرق الشيطان لإغواء الإنسان وتفضيله البدعة على الكبائر والموبقات وهذا الأمر -أعني البدعة والحدث في دين الإسلام- يفضل الشيطان إيقاع الناس فيها على إيقاعهم في الكبيرة، وقد ذكر علماؤنا عليهم رحمة الله طرق الشيطان التي يضل بها الناس، ويعاديهم بها، وهي سبع طرق ينبغي للبصير اليقظ المهتدي أن يكون على دراية بها حتى يعادي الشيطان، كما أنه يعادينا: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر:6].الطريق الأول الذي يرصده الشيطان لإضلال الناس: إيقاعهم في الكفر والشرك، فإذا حصل هذا منهم حصل غايته الكاملة، فإذا عجز ينتقل لإيقاعهم في البدعة، أي: يزين لهم المعاصي باسم الشرع، وأما هذه فلا غضاضة فيها ولا حرج، كما سأتكلم على نماذج كثيرة من البدع التي نغوص بها وفيها، ونتخبط بها، ونظن أنه لا غضاضة فيها، وأنها مباحةٌ في شرع الله، ونسأل الله أن يلطف بحالنا.فإذا عجز عن إيقاعهم في الشرك يفضل إيقاعهم في البدعة، وإذا ما أمكنه أن يوقعهم في البدعة ينتقل لطريقٍ ثالث: فيزين لهم الكبائر من شرب خمرٍ وسرقةٍ وتعاملٍ بالربا وزنا وما شاكل هذا، ويفضل إيقاعهم في البدعة على إيقاعهم في الزنا وشرب الخمر؛ لأن شارب الخمر يعلم أنه عاصٍ، والمبتدع لا يشعر بذلك، ولذلك كلما ازداد في بدعته اجتهاداً ازداد من الله ابتعاداً، فإذا عجز عن إيقاعهم في الكبائر أوقعهم في الصغائر، وإذا عجز عن إيقاعهم في الصغائر شغلهم في المباحات، في القيل والقال فيما لا ينفع لتضيع أوقاتهم سدى، وإذا عجز عن إيقاعهم في المباحات، واستعملوا أوقاتهم فيما يقربهم إلى رب الأرض والسموات، انتقل إلى الطريق السادس فيوقعهم ويزين لهم فعل المفضول وترك الفاضل، أي: العمل الذي أجره قليل على العمل الذي أجره كثير، وإن كان كل من العملين صالحاً؛ ليفوت عليهم الربح العظيم والأجر الكثير.فإذا عجز عن هذا سلط أولياءه من الإنس على هذا المؤمن الذي لم يتلبث بواحدةٍ من هذه الطرق؛ ليؤذوه ويعادوه، فإذا صبر المؤمن أمام هذه المرتبة، وعادى من اتخذه الشيطان ولياً وحميماً، ولم يتخذهم أولياءً من دون الله، اتخذه الله ولياً حقاً، وقد تم إيمانه على وجه الكمال، فلا كفر، ولا بدعة، ولا كبيرة، ولا صغيرة، ولا انهماك في المباح، ولا يؤثر المفضول على الفاضل، ثم بعد ذلك يعادي أولياء الشيطان ويبغضهم في كبائر الذنوب.
رد: مرض الشبهات - للشيخ : ( عبد الرحيم الطحان ) البدعة أحب إلى إبليس من المعصية قال الإمام سفيان الثوري عليه رحمة الله: البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، والسبب في هذا: أن البدعة لا يتوب الإنسان منها؛ لأنه يعلم أنه على خير، وأما المعصية فيتوب الإنسان منها، ولذلك قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: المبتدع هو الذي يتخذ ديناً لم يأذن به الله. هذا زين له سوء عمله، فلا يمكن أن يتوب؛ لأن أول مراتب التوبة أن يشعر الإنسان بأنه فعل سيئاً وترك حسناً، وذلك الحسن إما مأمورٌ به أمر إيجابٍ أو أمر استحباب، أو ترك حسناً، وذلك الحسن مأمورٌ به أمر إيجابٍ أو أمر استحباب، فلم يشعر بذلك؛ لأنه ممن يفعل البدع، ويظنها أنها من شرع الله، فلا يمكن أن يتوب. ولذلك اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الذي يفعل المعاصي ويشعر بكراهيته لها أنه في حظيرة الإيمان وما خرج، وفي هذا إشارةٌ إلى أن المبتدع ليس كذلك؛ لأنه لا يشعر بقبح ما يفعله عندما يدخل في دين الله جل وعلا ما ليس منه، فيفعل المعاصي ولا يشعر بأنه عاصٍ فيها، وإذا وصل الإنسان إلى درجة أنه إذا فعل السيئ أو ترك الحسن ما يشعر بذلك؛ فليبك على نفسه، وليعلم أنه ممن التقم الشيطان قلبه، ولذلك ثبت في مستدرك الحاكم ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، قال الحاكم : والحديث صحيحٌ على شرط الشيخين، وأقره الذهبي ، عن أبي أمامة ، وثبت الحديث أيضاً في سنن الترمذي عن عمر بسندٍ حسن، ورواه الطبراني في الأوسط عن علي ، ورواه الحاكم أيضاً وأحمد والبزار والطبراني عن أبي موسى رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، ما دام يشعر بتلذذٍ إذا فعل الطاعة، وبكدرٍ إذا فعل المعصية، فقلبه مغمورٌ بالإيمان، وما خرج عن حظيرة الإسلام.وأما المبتدع صاحب الشبهات فيفعل المعاصي ولا يشعر بأنه يعصي الرحمن، ولذلك كانت البدعة أشنع من الكبيرة، وكان المبتدع أخبث عند الله جل وعلا من صاحب الكبيرة، والبدعة هي مقرونةٌ بالكفر والشرك، وكان الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله كثيراً ما يردد هذا القول: تزوجت الحقيقة الكافرة بالبدعة الفاجرة، فتولد عنهما خسارة الدنيا والآخرة. البدعة الحقيقة الكافرة تصاحبها دائماً هذه البدع الفاجرة الجائرة والشبهات، ويترتب على هذا خسارة الدنيا والآخرة. علاقة مرض الشبهات بأول ذنب عصي الله به مرض الشبهات هو أول مرضٍ وجد في ملك الله جل وعلا، أول معصيةٍ وقعت معصية إبليس، وهي عن طريق الشبهات عندما أمره ربنا جل وعلا أن يسجد لآدم: قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف:12]، دخل من باب الشبهات للاعتراض على أوامر رب الأرض والسموات، وأن معدن النار أفضل من معدن الطين، فكيف يسجد إذاً لهذا المخلوق؟! فأول معصيةٍ وقعت في ملك الله وفي خلق الله عن طريق الشبهات، وهي معصية إبليس، وهي معصية الكبر التي تنشأ عن الاعتقاد الباطل، وهذا الكلام من إبليس كما قال أئمتنا عليهم رحمة الله: مردودٌ من جهاتٍ كثيرةٍ: أبرزها: أن هذا القياس فاسد الاعتبار لا ينظر في مضمونه؛ لأنه صادم النص، وإذا صادم القياس النص فهو فاسد الاعتبار، وإذا أعطى الإنسان رأياً يخالف به نصاً شرعياً من آياتٍ أو حديث فيسلك مسلك اللعين إبليس، ولذلك قال الشعبي وغيره: أول من قاس إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس، فهو قياسٌ فاسد.الأمر الثاني: مع أنه قياسٌ فاسدٌ، فهو قياسٌ باطلٌ أيضاً، فلا يسلم أن جوهر النار أفضل من جوهر الطين، فجوهر الطين أفضل من جوهر النار، وإذا أردت أن تعرف مقدار كلٍ من النار والطين فانظر لوصف كل واحدٍ منهما، أما الطين فمنه يخرج أقوات الآدميين، ومنه تكون الحدائق والبساتين، وتضع فيه بذرة فيعطيك شجرة، وأما النار فطبيعتها الطياشة والتفريق، وكيف يكون معدن الطين كمعدن النار!الأمر الثالث: سلمنا أن معدن النار أفضل من معدن الطين، فهل يقتضي هذا كون الفرع الذي خلق من النار أفضل من الفرع الذي خلق من الطين؟! لا ثم لا.إذا افتخرت بآباءٍ لهم نسبٌقلنا صدقت ولكن بئسما ولدوا فأنت وإن كنت من معدن النار، وهو أفضل من معدن الطين، فلا يلزم أن تكون أفضل من آدم الذي خلق من معدنٍ أقل من معدنك، والإنسان يتفاضل بكسبه لا بما ليس في وسعه، سواءٌ خلق من معدنٍ فاضلٍ أو من معدنٍ مفضول، والناس يتفاضلون عند الله جل وعلا بالعمل الصالح.ومن أخبار بني إسرائيل، وهو من الملح والطرائف: أن إبليس عليه لعنة الله أراد أن يتوب بعد أن غضب الله عليه ولعنه وطرده، وقال: يا رب! تب علي، ومرض الشبهات مستحكمٌ فيه لا يمكن أن يزول عنه، فقال الله: أتوب عليك، ولكن بشرطٍ واحد -وهو العليم بحاله، وأن لعنته ستصاحبه إلى يوم القيامة- قال: وما هو؟ قال: تذهب إلى قبر آدم فتسجد له، قال: يا رب! ما سجدت له حياً أأسجد له ميتاً؟! فمرض الشبهات لا يزول عنه بحال من الأحوال، أنت ينبغي أن تعظم الآمر، فإذا أمرك فقل سمعاً وطاعةً، وهذا هو الحق، ولكن من ابتلي بالشبهات فهذا هو حاله. تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من مرض الشبهات النقطة الثالثة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من هذا المرض، ويشدد علينا غاية التشديد، ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والترمذي ، وقال: حسنٌ صحيح، والحديث في سنن ابن ماجه ، ورواه الحاكم في المستدرك على شرط الشيخين، قال: لا أعرف له علة، وقد صحّ هذا الحديث والحمد لله، وأقره الذهبي على ذلك، عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! كأنها موعظة مودع -وأن الأجل قد اقترب، وسترحل عن هذه الدنيا- فأوصنا، قال: أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم عبدٌ حبشي -لولاة الأمور إذا كانوا يحكمون بشرع العزيز الغفور- فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ- وهي آخر الأضراس، وحذار من التفريط بها وتفليتها- عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، ألا وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة)، زاد النسائي وابن أبي عاصم في روايتهما: (وكل ضلالةٍ في النار)، فحذرنا النبي عليه الصلاة والسلام من مرض الشبهات، وأخبرنا أن البدع ضلالات، والضلالات مآلها إلى النار. وقد كان -فداه أبي وأمي- عليه صلوات الله وسلامه يحذر الصحابة من هذا في كل يوم جمعة عندما يقوم فيهم خطيباً في ذلك الاجتماع العظيم، يحذرهم من مرض الشبهات، ومن التلبس بالبدع المحدثات، ففي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، يقول: صبحكم ومساكم، ثم يقول بعد ذلك: أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم)، أو (وخير الهدى هدى محمد)، كل من الضبطين ضبط في كتب الحديث: (وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة). وكان النبي عليه الصلاة والسلام يبين لنا الخط المستقيم ويخبرنا أن من انحرف عنه فهو في الجحيم، وعمله لا يقبل عند رب العالمين، ففي الصحيحين عن أمنا عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌ)، وفي رواية للإمام مسلم عليه رحمة الله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردٌ). وقد أخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام: أن الإنسان لا يكون مؤمناً حتى يترك البدع والمحدثات ويكون هواه تبعاً لما جاء به، قال عنه النووي : إنه بإسنادٍ صحيح، ورواه أبو نعيم في أربعينه، وقد اشترط ألا يورد فيها إلا الأحاديث الصحيحة، ورواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، رأيه تبعاً لما جئت به، فليس عنده شبهةٌ يضاد بها ما أحل الله، وما شرع الله، وما أنزل الله، والحديث كما قلت: صحيحٌ صححه النووي ، وأقره عليه الإمام علي القاري عليه رحمة الله، وأقره عليه الشيخ المعلمي عليهم جميعاً رحمة الله تعالى. تحذير السلف الصالح من مرض الشبهات وبيان خطره لقد تتابع سلفنا في التحذير من البدع، وساروا على مسلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي كتاب شرح السنة للبغوي ، وكتاب الباعث لإنكار البدع والحوادث للإمام أبي شامة بالسند إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم). وفي صحيح البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: يا معشر القراء! استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً، فإن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً. استقيموا فقد سبقتم، وضبطت (سُبقتم) بالبناء للمجهول وللمعلوم، أي: إن اتقيتم فقد سبقتم سبقاً بعيداً وحصلتم رضوان الله، استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً، أي: أن السلف الأول لم يتركوا لنا خيراً إلا دلونا عليه، فلا داعي للمحدثات والبدع، استقيموا فقد سَبقتم، فقد سُبقتم سبقاً بعيداً؛ فإن أخذتم يميناً وشمالاً فقد ضللتم ضلالاً بعيداً. انتشار مرض الشبهات بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر الذي أوصانا به النبي عليه الصلاة والسلام، وتتابع عليه سلفنا الكرم، حصل بعد ذلك فيه ما حصل من الخلل، وكلما امتدت الحياة حصلت الزيادة في الخلل حتى يوم القيامة، فنسأل الله أن يلطف بحالنا، فتغيرت الأمور بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنها ستتغير كما الحديث السابق: ( فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً ). ثبت في سنن الترمذي والحديث أيضاً في صحيح البخاري عن الزبير بن عدي رضي الله عنه قال: أتينا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه نشكو إليه ما نجد من الحجاج ، ولا زال العصر في القرن الأول، فقال أنس بن مالك رضي الله عنه: اصبروا، اصبروا، ( لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر من الذي قبله، حتى تلقوا ربكم )، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فالأمور ستتغير، ويحصل فيها ما يحصل، وكلما امتد زمن ازداد التغير والحدث في دين الإسلام. وفي سنن الدارمي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا يأتي عليكم عام إلا وهو شر مما قبله، أما أني لست أقول: إن عاماً أخصب من عام، وأميراً خير من أمير، ولكن علماؤكم وخياركم وفقهاؤكم يذهبون ثم لا تجدون عنهم خلفاً، ويأتي أناس يقيسون الأمور برأيهم، ويحدثون في دين الله جل وعلا ما ليس منه. لا أقول: كما هو حالنا، إنما كما هو حال العصور المتقدمة، وأما حالنا فسيأتينا عما قريب وصف موجز له إن شاء الله.وفي معجم الطبراني الكبير بسند رجاله جال الصحيح، عن عبد الله بن مسعود أيضاً أنه قال يوماً لامرأته: اليوم خير أم أمس؟ قالت: لا أدري، قال: لكني أدري، أمس خير من اليوم، واليوم خير من غد، وهكذا حتى تقوم الساعة.وكلما امتد الأجل أحدث الناس في دين الله جل وعلا ما ليس منه، ففي معجم الطبراني الكبير أيضاً بسند رجاله موثقون، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما أتى على الناس زمان إلا أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة. شعور الصحابة بتكدر القلوب وتغير الأحوال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد شعر الصحابة الكرام بتكدر القلوب وتغيرها بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام، ففي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وابن ماجه بسند صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفي معجم البزار بسند جيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال.. كل من هذين الصحابيين الجليلين أنس وأبو سعيد : لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء فيها كل شيء، كل شيء يلمع ويتنور برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وبالهدى الذي ينشره بين الناس، فلما كان اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم أظلم فيها كل شيء، والله! ما نفضنا الأيدي عن تراب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا، إذا حصل في ذهننا شبهة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام تجتث وتستأصل بالبيان الحق، وأما الآن فقد انقطع الوحي، وسيلعب الشيطان في كثير من الأذهان لتحدث في الإسلام ما ليس منه، فبمجرد فراغنا من دفن النبي صلى الله عليه وسلم حصل في القلوب ما حصل، ما نفضنا الأيدي عن تراب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أنكرنا قلوبنا. وفي صحيح مسلم وسنن ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزورها، وهي حاضنة النبي عليه الصلاة والسلام ومربيته، وهي أمه بعد أمه، وهي بقيته من أهله، وهي المرأة الصالحة التي عندما هاجرت من مكة إلى المدنية، وكانت صائمة وصار المغرب واشتد عليها العطش، فرأت دلواً معلقاً بين السماء والأرض، فشربت منه فما أصابها الضمأ بعد ذلك، فكانت تصوم وتتعرض لحر الشمس فلا تعطش، وهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: ( من أحب أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن )، ثم تزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنهم أجمعين. انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما دخلا عليها بكت، فقالا لها: ما يبكيك، فما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم؟ فعلام تبكي؟ قالت: إني والله أعلم أن ما عند الله خير لرسوله، ولكني أبكي لأن الوحي قد انقطع من السماء، فستحصل بعد ذلك الفتن والأهواء؛ لأن الوحي قد انقطع من السماء، بكت عندما مات النبي عليه الصلاة والسلام، وكثر بكاؤها كما في طبقات ابن سعد بإسناد صحيح عندما مات عمر ، وقبضت بعد موت عمر بعشرين يوماً رضي الله عنهم أجمعين، قيل لها: علام تبكي؟ فقالت: وهى الإسلام، أي: تصدع وانشق عندما مات عمر ، وواقع الأمر كذلك، فبين الناس والفتن باب حصين إذا انكسر ذلك الباب فلن يعاد مرةً ثانية، وهو عمر بن الخطاب ، كما أشار إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأل عمر حذيفة فقال: إن بينك وبينها باباً، قال: وهل يكسر أو يفتح؟ قال: يكسر، قال: إذاً لا يفتح إلى يوم القيامة، فكانت أم أيمن رضي الله عنها تبكي بعد موت عمر رضي الله عنهم أجمعين وتقول: وهى الإسلام، تصدع بناؤه، لما سيحصل فيه من أوهام وخرافات يتقرب بها الناس إلى الرحمن، وهي ضلالات وأباطيل. وقد أخبرتنا أم سلمة رضي الله عنها عن تغير الأحوال بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام مباشرةً، ففي سنن ابن ماجه بسند إسناده مقارِبٌ أو مقارَب كما قال الإمام أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن محمد الحنبلي المنبجي في كتابه تسلية أهل المصائب، وكتبه على هدي السلف، توفي سنة خمس وثمانين وسبعمائة للهجرة عليه رحمة رب العالمين، يقول: إن إسناد الحديث مقارب، أي: أن الرواة يقاربون غيرهم في الحفظ والضبط والإتقان، ولعله يرتقي لدرجة الحسن إن شاء الرحمن، عن أمنا أم سلمة رضي الله عنها قالت: (لما كان الناس في زمن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قام أحدهم ليصلي لم يعدُ بصره موضع قدميه، ينظر إلى قدميه، ولا يتجاوز نظره قدميه قيد أنملة ولا مقدار إصبع، فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر ، كان الرجل إذا قام ليصلي لم يعدُ بصره موضع جبينه، محل السجود، وما تجاوزوا هذا، فلما قبض أبو بكر واستخلف عمر رضي الله عنهم أجمعين، كان الرجل إذا قام ليصلي لم يعد بصره القبلة، ينظر ولكن لا ينظر لغير جهة القبلة، فلما قتل عمر واستخلف عثمان ووقعت الفتنة، نظر الناس يميناً وشمالاً، فتغيرت القلوب وتكدرت، وحصل من البدع ما حصل. وقد شعر الصحابة الكرام بهذا فأنكروه غاية الإنكار، وتأثروا تأثراً يزيل الجبال الكبار، ففي صحيح البخاري عن الزهري ، وفي سنن الترمذي عن أبي عمران الجوني ، كل منهما يقول: دخلت على أنس بن مالك رضي الله عنهم أجمعين، والزهري من أئمة التابعين، وأنس صحابي، دخلنا عليه في مسجد دمشق، وذلك عندما جاء أنس يشكو الحجاج للوليد بن عبد الملك ، وكان الخليفة إذ ذاك الوليد بن عبد الملك ، جاء يشكو إليه ظلم الحجاج في بلاد العراق، يقول الزهري وأبو عمران : دخلنا على أنس فإذا هو يبكي، فقلنا: ما يبكيك؟ فقال: والله ما أعلم شيئاً مما كان عليه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلا هذه الصلاة، وهذه الصلاة قد ضيعت. أو تؤخرونها عن مواقيتها ولا تصلونها في الأوقات المستحبة. والحديث في صحيح البخاري وسنن الترمذي .وفي مسند الإمام أحمد عن أم الدرداء رضي الله عنها: أن أبا الدرداء رضي الله عنه دخل عليها وهو مغضب، فقالت: من أغضبك؟ فقال: والله لا أعلم شيئاً من أمر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم موجوداً إلا أنهم يصلون جميعاً، وأما ما عدا هذا فالبدع قد عكفوا عليها في سائر أشكال حياتهم.
رد: مرض الشبهات - للشيخ : ( عبد الرحيم الطحان ) تغير الأحوال وانتشار المرض بعد عصر الصحابة ولما انقرض الصحابة وجاء زمن التابعين شعروا بالخلل أكثر وأكثر، ففي موطأ مالك عن مالك بن أبي عامر الأصبحي ، وهو من كبار التابعين عليه رحمة الله، قال: ما أعرف شيئاً مما أدركت عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا النداء. أي: إلا الأذان، الصلاة الآن ذهبت، وفي كتاب الحلية عن معاوية بن قرة قال: أدركت سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو خرجوا فيكم ما عرفوا شيئاً مما كانوا عليه إلا الأذان. سبعين من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام لو بعثوا في زمن التابعين ما عرفوا شيئاً مما كانوا عليه إلا الأذان. ولما امتد الزمان كثر التغير والتغيير، ففي كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للإمام الخلال ينقل بسنده عن الإمام أحمد عليه رحمة الله أنه قال -وقد كان بعد أتباع التابعين فحصل في زمنهم ما حصل- كان يقول الإمام أحمد : إذا رأيتم شيئاً مستوياً مستقيماً فتعجبوا. لأن الأصل الانحراف، وحصول الشبه، وعكوف الناس على البدع، وأنتم إذا رأيتم شيئاً مستقيماً مستوياً فتعجبوا.وأذكر أن بعض الناس الكبار في هذه البلدة قال لي في حديث دار بيني وبينه: ما ينبغي أن نقسو على الناس في التوجيه فالناس في خير، وشعائر الله قائمة والحمد لله، فقلت: سبحان الله! إذا كان الإمام أحمد في القرن الثالث يقول: إذا رأيتم شيئاً مستقيماً مستوياً فتعجبوا، فكيف حالنا الآن؟! سأذكر حالنا الآن، فالمبتدع الآن عندنا صالح، والمنحرف هذا شيء آخر سأذكره الآن، نحن لسنا الآن بين سنن وبدع، بل بين بدع وردة، وبين بدع وكفر، أما البدع فالكبير والصغير منا يغوص بها إلى أذنيه، إنما نحن الآن بين بدع وكفر، بين بدع وردة، لا بين سنة وبدعة كما كان الحال في سلفنا الأول. يقول الإمام ابن حجر في الفتح عند كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من تراجم البخاري في باب الاقتداء بسنن النبي عليه الصلاة والسلام، وانظروا كلام الحافظ في الفتح في الجزء الثالث عشر صفح ثلاث وخمسين ومائتين، وينبغي أن ينقش على القلوب ليكون الناس على دارية وبصيرة بالأمر، يقول الحافظ عليه رحمة الله: وقد توسع من تأخر عن القرون الثلاثة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك -لم يقتنعوا بالتوسع فقط، والإحداث في دين الله ما ليس منه- حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان -جعلوا مباحث العقيدة تقوم على الفلسفة كما هو حال التوحيد الموجود الآن في الأرض- حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلاً يردون إليه ما خالفه من الآثار بالتأويل ولو كان مستكرهاً. سبحان الله! صار كلام الفلاسفة هو الأصل، والكتاب والسنة يعرضان على كلام الفلاسفة بحالة هزيلة، إن وافقت النصوص كلام الفلاسفة قبلت وإلا أولت ولو كان التأويل مستكرهاً، قال: حتى زعموا أن الذي رتبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يحصل ما اصطلحوا عليه فهو عامي جاهل، فالسعيد من تمسك بما كان عليه السلف، واجتنب ما أحدثه الخلف. استحكام مرض الشبهات وضياع السنن في زماننا وأما حالنا إخوتي الكرام! فنسأل الله أن يلطف بحالنا، نحن الآن لسنا بين بدع وسنن، نفعل البدع ونترك السنن، لا والله، فمن يفعل فينا البدع ولا يتلبس بالردة فهو صديق صالح في أعرافنا، إذا كان يفعل البدع ويخوض بها فهو في عرفنا مسلم وصالح، ونحن الآن بين بدع وبين ردة، استماع الغناء على أنه من المباحات، هذا من البدع الخبيثة كما سيأتينا، وما أعلم كم عدد البيوت التي سلمت منه، ومع هذا إذا لم يصل به الحال للردة فهو على خير، لأن الأمر قد ازداد، وتطاول الناس بحيث إذا لم يسمع الإنسان الغناء رموه بما رموه به بأنه متحجر متعجرف متنطع لا زال في العصر الحجري! حال اللحية وما يتعلق بها، مضت القرون الثلاثة ولم يحصل أن واحداً من المسلمين حلق اللحية أو قصرها، وباتفاق فقهائنا يحرم حلق اللحية أو أخذ شيء منها إذا كانت دون القبضة، وما زاد عن القبضة ففيه خلاف، يضع يده في نهاية ذقنه وما زاد له أن يأخذه أم لا؟ أما إذا كانت اللحية دون هذا فالأخذ منها لا يجوز، ليت من يحلق لحيته أو يقصر يقول: أنا عاص وأنا فاسق؟ لكنه يقول: إن هذا مباح، وليس فيه غضاضة ولا حرج. يخوض في البدعة وهو من الدعاة إلى الله الكبار، ومع هذا فالأمر يسير، إذا لم يستهزئ بهذه الشعيرة ولم يرتد فالأمر يسير، فكم هم الذين يستهزئون بهذه الشعيرة لا أقول في بلاد الغرب بل في أبها! كمن يقول: إن اللحية كالمكنسة! كم هم! وكما يقول الزنادقة في بلاد المسلمين في كل مكان، وقد سألني هذا السؤال بعض الناس في هذا اليوم علم ربي الرحمن في الكلية، يقول: ما حكم من يقول: لو كان في الشعر خير ما نبت على ذنب العير! أي: الحمار، فهذه وساخة وقذارة، ينبغي أن ترفع من الوجه! وحين ذكرت هذا الكلام في بعض الفصول أخبرني بعض الصالحين أن بعض السفهاء يزيدون في الكلام، يقولون: لو كان في الشعر خير ما نبت على كذا، أي: على عضو الرجل! سبحان الله! نحن الآن لسنا بين سنة وبدعة، بل بين بدعة وردة، نسأل الله أن لا نكون من المرتدين. وأما البدعة فنغوص فيها من عصور طويلة، أما الآن فالناس يخرجون من دين الله أفواجاً، ونسأل الله أن يثبت الإيمان في قلوبنا، لا يتحركون ولا يسكنون إلا حسب الأعراف والعادات والتقاليد، فهذا أعظم طاغوت عودي به الرسل، وأخبث بدعة حدثت على وجه الأرض، ومع هذا إذا لم يستهزئ بشعائر الإسلام فلا زال الأمر فيه خيراً، إنما البلية عمت وطمت، وصار استهزاء بشعائر الإسلام، والذي يستهزئ بشعائر الإسلام هذا مرتد، فنحن الآن بين فعل بدعة وفعل ردة، وحصر المرتدون في بلاد المسلمين لا يحصون، ولا يوجد أبو بكر رضي الله عنه ليردع هؤلاء المرتدين ويعيدهم إلى حضيرة الدين، ردة ولا أبو بكر لها، فهذا حالنا الآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله. أقسام البدعة وامثلتها أقسام البدعة آخر المباحث: أقسام البدعة، ونماذج لها: البدعة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: بدعة مكفرة، إذا تلبس الإنسان بتلك الشبهة فحكمه في الدنيا حكم الكافرين، وسيختم له بما يسود وجهه عند رب العالمين، وهو في أسفل دركات الجحيم، وذلك بأن يحدث في دين الله شيئاً يكفر بسببه، وضابط ذلك كما قرر أئمتنا الكرام: إنكار ما هو متواتر من الإسلام ومعلوم عند أهل الإيمان، وزعم أن هذا من دين الإسلام، أي: إذا كانت بدعته تفضي إلى إنكار ما هو متواتر في الإسلام، وإلى ما هو مقرر عند أهل الإيمان، فبدعته مكفرة، وفي نظري حسبما توصلت إليه أن هذه البدعة لا تخرج عن أصناف خمسة تنتشر هذا الوقت في كل مكان:الأول: الباطنية، فرق باطنية بدعهم مكفرة كما سأفصل الكلام على هذا، غلاة فلاسفة ردية، غلاة وزنادقة الصوفية، غلاة القدرية، غير من تقدم من الأصناف الأربعة ممن بدعتهم شركية، أو في بدعتهم إزراء بالشريعة الإسلامية، هؤلاء الأصناف الخمس إذا تلبس الإنسان بواحد من بدعتهم فهو مرتد كافر بالله رب العالمين. الباطنية وغلاة الشيعة أما الأول: فهم الباطنية غلاة الشيعة، وفرق الباطينة بأقسامها التي تنتشر الآن هنا وهناك، وتريد السيطرة على بلاد المسلمين، بدعة النصيرية، بدعة الإسماعيلية، بدعة القرامطة، بدعة الدروز، كل هؤلاء أحدثوا في دين الله جل وعلا ما ليس منه، وبدعهم مكفرة، وإن كانوا يقرءون القرآن، فيضعون له من المعاني ما يستحي منه الشيطان، لو خرج الشيطان بصورتهم لما وضع تلك المعاني لكلام الله جل وعلا، فيتلاعبون بكلام الله، ويختلقون له من المعاني ما لا يخطر ببال أحد، النصيرية، والدروز، وغلاة الشيعة، والبهرة، ملئوا الدنيا الآن، ويحاولون السيطرة على بلاد المسلمين. وقد قرر الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله في رسالته الدروز والنصيرية في بلاد الشام، قرر أن فرق الباطنية ليسوا من الملل الثلاث وإن انتسبوا إلى الإسلام، فليسوا من المسلمين وليسوا من اليهود ولا من النصارى، ليسوا من المسلمين ولا من اليهود ولا من النصارى، وقد انتشر هؤلاء في كل مكان، وبدعهم عمت أرجاء الأرض. الفلاسفة البدعة الثانية: بدعة الفلاسفة، بدعة الفلاسفة الزنادقة التي أدخلوها باسم الإسلام، وصار هؤلاء الفلاسفة يعظمون في أرقى دور العلم عندنا، وتفتح كليات باسم الفلسفة وعلم النفس، ويثنى على شياطين هذه المادة، وعلى شياطين هذا الكفر، ابن سينا وأبو نصر الفارابي ، وخليفة إبليس أبو العلاء المعري ، وما شاكل هؤلاء الفلاسفة -الفلاسفة وما أدراكم ما الفلاسفة- وقد أجمع أهل السنة على كفرهم بأربعة أمور: الأمر الأول: أنهم ينكرون البعث ويقولون: إنه للأرواح لا للأبدان، وهذه عقيدة النصارى، يقول ابن سينا بالحرف الواحد: كل من أنصف ورجع إلى عقله علم أن إعادة الأبدان بأعيانها مستحيلة! هذا كلام ابن سينا ! والله ما ذهبت سيناء في بلاد مصر إلا بانشغالهم بوساوس ابن سينا ، وبمزامير ابن سينا ، وهكذا في بلاد المسلمين أجمعين. وأبو نصر الفارابي الذي يقول: إن النبوة يمكن أن يصل إليها الإنسان عن طريق الرياضة النفسية، وليس بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين الفلاسفة فرق بل هو في درجتهم في النبوة! أبو نصر الفارابي أول من أحدث القانون في وسائل الغناء، ورضي الله عن الإمام الشافعي عندما يقول: خرجت من بغداد وخلفت فيها شيئاً أحدثه الزنادقة يسمونه التغبير، آلة يغبرون بها ويطبلون كالمزيكة والعود يصدون بها الناس عن القرآن، وهذا اللعين أبو نصر الفارابي أحدث القانون، ثم حصل بعد ذلك ما حصل من تطوير لوسائل الغناء وصدوا به الناس عن كتاب رب الأرض والسماء. غلاة الصوفية البدعة الثالثة المكفرة: غلاة الصوفية الذين يقولون بالحلول والاتحاد، ويأتون بكلام زنادقتهم ثم يستدلون عليه بأحاديث يختلقونها من عند شياطينهم، كما يقول أحدهم مقرراً عقيدة الحلول: وما قاله الشيخ الأكبر أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( من ذكر لم يشهد، ومن شهد لم يذكر )، أي: من ذكر الله تعالى فلن يشهده، بل هو محجوب، ومن شهد الله وعلم أن الله هو وهو الله فلماذا يذكر؟ ومن شهد لم يذكر، ثم قال بعد ذلك: وهذا مقام لا يصل إليه إلا قلة من الناس. نسأل الله أن يفنيهم، وأن لا يجعل في الناس واحداً يسير على هذا الطريق، يقول: وهذا مقام المقربين، وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين. سبحان الله! صار الإلحاد والزندقة باباً للولاية، الإلحاد والزندقة صار باباً للولاية في هذا الوقت، غلاة الصوفية، الذين يقولون بالحلول وبوحدة الوجود، بدعتهم مكفرة، وما يحسن الظن فيهم إلا أحد صنفين: إما أن يكون هو على شاكلتهم، أو لا يعرف حقيقتهم فلا يؤبه بكلامه، وقد انتشرت هذه البدعة في كثير من أرجاء الأرض. غلاة القدرية البدعة الرابعة: غلاة القدرية، الذين يقولون: إن الله لم يقدر الشيء، لم يعلم بالشيء إلا بعد وقوعه، ولم يقدره ويقولون: إن الأمر أنف، فهؤلاء بدعتهم مكفرة؛ لأنهم ينفقون العلم عن الله تعالى، وهذا كفر، فعن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني ، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، فوفق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، أي: المسجد الحرام، فاكتنفته أنا وصاحبي، أخذنا عن يمينه والآخر عن شماله، فقلت: أبا عبد الرحمن ! إنه قد ظهر أناس قبلنا يتقفرون العلم ويزعمون أن لا قدر -أن الله لم يقدر شيئاً ولا يعلمه إلا بعد أن يقع- وأن الأمر أنف، أي: مستحدث. فقال: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه في سبيل الله ما قبل الله منه ذلك حتى يؤمن بالقدر، ثم ساق حديث جبريل الطويل: ( الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأن تؤمن بالقدر خيره وشره، حلوه ومره من الله جل وعلا)، هذه بدعة القدرية. تقديس القبور ودعاء الموتى البدعة الأخرى من غير الأصناف الأربعة المتقدمة، وهي بدعة شركية أو فيها إزراء بالشريعة الإسلامية، وهي تقديس القبور، والاستغاثة بالموتى من دون العزيز الغفور، يعظم القبور، ويستغيث بها، وهذا عمّ في سائر بلدان المسلمين، عكفوا حول القبور، وعبدوها من دون العزيز الغفور، من العار الذي يندى له الجبين وجود هذه المقابر والمشاهد في بلاد المسلمين. ومن أعظم العار وأشنعه أن المشهد الحسيني في بلدة القاهرة وهي من أوسع وأعظم بلدان المسلمين، المشهد الحسيني الذي يطوف حول القبر فيه أكثر من الطواف حول الكعبة، ويقال: إنه قبر رجل نصراني! سبحان الله! تعبدون القبور حتى وصل بكم الحال إلى عبادة قبور النصارى! ولا أقول: إنه لو كان الحسين فيجوز عبادته، إنما زيادة ضلال، وباتفاق أئمة التاريخ أن ذلك المشهد الباطل بني سنة خمسين وخمسمائة للهجرة، أي: بعد مقتل الحسين بخمسمائة سنة، بنته الدولة الملحدة الفاطمية التي حكمت في بلاد المغرب ثم مصر، من سنة سبعين ومائتين إلى سنة سبع وستين وخمسمائة عندما قضي عليها في عهد الخليفة المرتضى على يد صلاح الدين الأيوبي ، وألف الإمام ابن الجوزي كتابه الشهير: النصر على مصر، وعادت بلاد مصر إلى حظيرة الإسلام بعد أن عاشت ثلاثة قرون في عهد الفاطميين، في دولة مرتدة عن الإسلام، والفاطميون بنوه في آخر عهدهم سنة خمسين وخمسمائة، أي: قبل زوال ملكهم بقرابة عشرين سنة، بنو المشهد الحسيني ليتقرب بزعمهم إلى آل البيت، كانوا يدعون هذا، وكان ظاهرهم الرفض، أي: الانتساب إلى أهل البيت، وحقيقتهم الكفر المحض، والله إن القبر الموجود هناك لا أقول: إن العامة تعظمه، فالعامة تبع للعلماء، إنما المشايخ الكبار الذين يعظمون ذلك الطاغوت، ففيه نصراني أقيم على مسجد في عهد الدولة الفاطمية الملحدة، ثم جاء المسلمون على مر العصور يتمسحون بذلك القبر، ويستغيثون به وينادونه، وأقول ما رأته عيناي وسمعته أذناي، يطوفون حول ذلك القبر ويقولون: يا سيدي الحسين ! زوج بنتي سمية، يا سيدي الحسين ارزقني ولداً، ومن هذا الكلام، سبحان الله! سبحان الله! والطاغوت الذي عنده يقول: اسعَ يا حاج، ثم بعد ذلك إذا أكثر الناس في الوقوف يقول: كفاية ما خلاص سمعكم الحسين ! سبحان الله! من يفعل هذا؟ إنهم الذين يقودون الأمة وهم مشايخ كبار، والموجود نصراني أقيم عليه ذلك المشهد سنة خمسين وخمسمائة، والله من فعل هذا إنه خارج من حظيرة الإسلام، هذه البدع التي عمت بلاد المسلمين وعكفوا عليها، وعكفوا عليها في كل حين، بدعة شركية الاستغاثة بغير رب العالمين، وتعظيم هذه القبور والطواف حولها، إنها بدعة ضالة، ومن العجيب الذي يفري الأكباد أنهم يزعمون أنهم بعملهم هذا يتقربون إلى الله جل وعلا! وأذكر أيام إقامتي هناك، وكم في بلاد مصر من صالحين! نسأل الله جل وعلا أن يزيد في عددهم، وأن يجعل فتح الإسلام وتفريج كروب المسلمين على أيديهم وأيدينا إنه على كل شيء قدير، وأرجو إذا كان بعض الإخوة يسمع كلامي أن لا يخطر بباله أنني أعرض بالصالحين بأهل تلك البلدة، لا ثم لا، فبلادنا واحدة، ومن دعا إلى وطنية فهو من جثو جهنم، وأنا على يقين بأن الصالحين هم أغير مني على التحذير، من البدع التي تجري هناك من أهل تلك البلاد، إنما أقول ما أقول من باب ما يجري في بلاد المسلمين، وما يجري هناك يجري مثله في بلاد الشام، من تعظيم القبور والعكوف حولها. عندما كنت في بلاد مصر قال لي بعض الإخوة من إخواننا من بلاد الشام: إن أكثر أهل مصر اعتقادهم طيب، ليسوا كبلاد الشام، قلت: وما هو؟ قال: يعظمون الأولياء غاية التعظيم، قلت: وما الذي لاح لك من تعظيمهم؟ قال: انظر ماذا يفعلون بقبر الحسين وغيره! قلت: هذا تعظيم الأولياء؟ عبادتهم من دون رب الأرض والسماء صار تعظيماً؟!وأذكر أنه قال لي.. وهو من حملة الشهادات العليا، عندما تعثرت معي الأمور الروتينية الإدارية في إدارة الأزهر، قال: إن أردت أن يفرج كربك فاذهب وطف واحداً وعشرين شوطاً، سبحان الله! ثلاثة أضعاف الطواف على الكعبة، وقل: من أمكم في حاجة فكم جبرومن تكونوا ناصريه ينتصرطف حول القبر، حول قبر النصراني، وادع بهذا، وإذا دعوت بهذا يفرج كربك وتقضى حاجتك، قلت: سبحان الله! وصل بك الانحطاط إلى هذا، وطمعت بي أن أكون مشركاً أيضاً لأجل عرض دنيوي، إلى هذا الأمر وصل بك الانحطاط؟! ثم قلت: يا رب! اللهم لا تشمت بي الأعداء، ولا يمكن أن تذل هذه اللحية وهذه الجبهة لغير رب الأرض والسماء، وجاء الفرج والله على كل شيء قدير. إنما هذه البدع انتشرت في سائر بلاد المسلمين، وأعرف في بلاد الشام من رأيته بعيني يستدبر القبلة ويستقبل القبر ثم يسجد له، ويظن أنه يتقرب بذلك إلى الله جل وعلا! بدع عمت الأرض، وهي بدع مكفرة، وهناك بدع قالها الناس باسم الدين، وفيها إزراء بشريعة رب العالمين، ومن دعا إلى شيء منها فهو من الملحدين، ومن المارقين من دين الله. تحريف الدين هذه البدع التي فيها إزراء بالشريعة الإسلامية، انتشر أصحابها في هذا الوقت تحت ستار علم النفس، والذي أحب أن يرسخ في أذهان المسلمين، وفي ذهن كل مسلم أن غاية علم النفس منذ أن نشأ إلى هذا الوقت وإلى الأوقات الآتية تسفيه الفضائل، وتبرير الجرائم، علم النفس غايته أنه يسفه الفضائل وأن يستهزئ بها، وأن يبرر الجرائم، وأن يظهر الرذيلة بمظهر مقبول للناس، هذا هو مظهر علم النفس الذي عكف عليه الناس وأقبلوا، وفتحت كليات في بلاد المسلمين تتحدث عن الفلسفة وعلم النفس، وإذا حمل الإنسان شهادة من ذلك المكان لا يتنزل لمخاطبة فرد من أفراد بني الإنسان، فهو صاحب فلسفة وعلم نفس، علم نفس أم علم عفن؟ إذا كانت النفس لا يعلم أحد حقيقتها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85]، تبحثون في وهم إلى وهم بوهم، لا نتيجة له إلا الوهم. لنر ماذا يقرره علماء النفس في هذا الوقت تحت مسمى دراسات في علم النفس، أو دراسات فسيولوجية، يقول الضال المضل الدكتور عبد العزيز القوصي المستشار الفني في وزارة التربية في مصر في كتابه دراسات فسيولوجية، (دكتور) وهذه الدال التي حصلت في هذا الوقت هذا طاغوت جديد، ولو دق أصحابها دقاً بدل الدال التي يضعونها أمام الاسم، وهذا الشخص (دكتور) في الفلسفة وعلم النفس، مستشار فني، يقول في كتابه: إن الخلط بين الذكور والإناث في المدارس ضروري، والشريعة الإسلامية لا تمنع من هذا. وهذا هو البلاء، لو قال: إنه فسق لا مانع، يقول: وليست القبلة والغزل والتلميحات الجنسية شيء من العار، فليهدأ الطلاب بالاً، فليس كل ما يقال عن الجنس معيب، ثم يقول بعد ذلك: هذا الركام الذي في أذهان الناس بواسطة التربية القديمة، والآراء العفنة التي نسقوها، وأدخلوها في أذهان النشء باسم الإسلام. خلط بين الذكور والإناث، وقد خلطوا، ثم بعد ذلك قبلة وغزل وتلميحات، ليس في هذا حرج، فليهدأ الشباب بالاً. ثم يأتي بعد ذلك الشيطان الأزهري رفاعة الطهطاوي الذي أرسل مبعوثاً من الأزهر إلى باريس، فعاد وهو سعيد ليقرر بعد أن كان شيخاً صعيدياً يلبس جبة لو أردت أن أدخل في كمها لدخلت، عاد بعد ذلك في صورة في منتهى النكارة ليقول: إن الفصل بين الذكور والإناث في المدارس وغيرها هذا نوع من التخلف والدناسة، وهذا هو الذي يقال له: إنه رائد النهضة في بلاد مصر المتوفى سنة تسعين ومائتين وألف للهجرة، قبل مائة وخمس عشرة سنة.ثم يأتي بعد ذلك ضال مضل يقذف بالكفر في أرجاء الأرض في هذا الوقت، فوسائل الإعلام تتناقل كلامه هنا وهناك، وله شأن، ونسأل الله أن يلطف بحالنا، وهو مصطفى محمود ، يقول في كتابه القرآن محاولة لفهم عصري، أي: سنفهم القرآن على حسب العصر، لا على حسب ما فهمه النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة. هاتِ ما عندك من الجيف لنرى، القرآن محاولة لفهم عصري تفسير للقرآن، يا عبد الله! إذا كنت أنت لا تتقن قراءة الفاتحة ولا تتلمذت ولا تخرجت في مدارس شرعية لتعرف بها أحكام الوضوء والطهارة، ثم تريد أن تفسر القرآن تفسيراً عصرياً، ماذا يقول؟ يقول بالحرف الواحد عند تفسير آية النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، يقول: كان يمكن غض البصر عندما كانت العباءة والجلباب والبرقع، وأما الآن فالأفخاذ مكشوفة، والصدر المكشوف، والصدر العريان، والشعر المسترسل، فماذا يفعل الإنسان؟ يقول -اسمعوا-: وأقول: إذا نظر الإنسان للأفخاذ المكشوفة والصدر العريان والشعر المسترسل ليرى الجمال، فيقول: الله، فالنظر في هذه الحالة ليس مباحاً فقط، إنما هو قربة إلى الله يحصل به حسنات! إلى هذا الحد، قربة إلى الله! ووالله إن هذه بداية وبعد ذلك سيقولون: إن الزنا قربة إلى الله، فهي بدع باسم الإسلام، ينظر للأفخاذ المكشوفة ويقول: الله فله حسنات، سبحان الله! أين من يغار على حرمات الله؟ أين من يوقف هذا السفيه وأمثاله عند حده.روى الحاكم وصححه وأقره عليه الذهبي والطبراني في الكبير بسند رجاله رجال الصحيح، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن من أشراط الساعة أن ترفع الأشرار، وأن توضع الأخيار، وأن يفتح القول، وأن يخزن العمل، وأن يقرأ في القوم بالمثناة ليس فيهم من ينكرها أو يغيرها. قالوا: وما المثناة؟ قال: كتب غير كتاب الله )، فالمثناة كتب غير كتاب الله، كتب الفلسفة وعلم النفس، والقرآن محاولة لفهم عصري، (وأن يقرأ في القوم بالمثناة ليس فيهم من ينكرها أو يغيرها)، اللهم إنا أنكرناها فاشهد، ليس فيهم من ينكرها، اللهم إنا أنكرناها فلا يحل سخطك علينا يا رب العالمين. قال الإمام ابن منظور في اللسان: وكأن النبي عليه الصلاة والسلام اعتبر القرآن كتاباً أولاً، وما يحدث من الكتب كتاباً ثانياً فهي مثناة، وقال الجوهري في الصحاح: المثناة هي الغناء، أي: أن ينتصر الغناء والبلاء في الرعية ليس فيهم من ينكره أو يغيره. هذا فيما يتعلق ببدعة الاعتقاد المكفرة، ومن تلبس بشيء من ذلك فهو كافر، وسيختم له بما يسود وجهه عند ربه جل وعلا. وأما البدعة الثانية فهي المفسقة: وهي التي ليس فيها إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وما هو متواتر من دين الإسلام، فأردت أن أتكلم عليه، والكلام عليه أخشى أن يطول، لذلك أرى أن أقف عند هذا المقدار عند البدعة المفسقة، وإن يسر الله لنا اجتماعاً آخر تكلمت عليها، وتكلمت على مرض الشبهات، وأسأل الله حسن الخاتمة عند الممات. اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك بعظمتك ورحمتك التي وسعت كل شيء أن تجعل حركاتنا وسكناتنا حسبما أنزلت وحسبما شرعت وحسبما جاء به نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل حبك وحب رسولك صلى الله عليه وسلم أحب إلينا من كل شيء، أحب إلينا من أنفسنا وأموالنا وأهلينا وأولادنا، وأحب إلينا من الماء البارد في اليوم القائض، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث فأصلح لنا شأننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين. اللهم رب جبريل وإسرافيل وميكائيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، اللهم ارزقنا الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة يا رحيم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
رد: مرض الشبهات - للشيخ : ( عبد الرحيم الطحان ) جزاك الله كل خير وادعو الله ان يجعل هزه المواضيع التى تكتبه فى ميزان حسناتك ان شاء الله