الإنسانُ لا يساويه ولا يدانيه في ملك الله وملكوته وكل عوالمه شيءٌ لأن الإنسان هو خليفة الله في هذه الأكوان ، حتى الملائكة فالملائكة مسخرةٌ لخدمة الإنسان الذي هو في طاعة الرحمـن وإذا كانت الملائكة يصنعها الله ويرفعها وينفعها بعمل الإنسان ، لكن الإنسان ليس له مصدر للإنتفاع إلا حضرة الرحمن والنبي العدنان صلى الله عليه وسلم وهذه هي عناية الله فكيف تتكون الملائكة؟ تتكون إما عن طريق بحر الحياة وينزل فيه سيدنا جبريل عليه السلام في كل يوم مرة ثم يخرج وينفض أجنحته فتنزل منها سبعون ألف قطرة ؛ يخرج الله من كل قطرة منها ملكاً يسبح الله إذاً يخلق في كل يوم سبعون ألف ملك وبعد خلقهم مباشرة يطوفون بالبيت المعمور ولا يرجعون إلى الطواف حوله إلى يوم النشور وبذلك يحج الملائكة مرة واحدة ، وهذا صنف من الملائكة والصنف الآخر يخلقهم الله من عمل الإنسان ، كيف يخلقهم من عمل الإنسان؟ وهو الإنسان الروحاني الذي احتشى قلبه بنور الله ومُلِئت تجاويفهُ بروحانية سيدنا ومولانا رسول الله ، لأن التسبيحة التي يسبِّحها تخرج نوراً لا يراها في دنيانا إلا من كشف لهم الله الستور فيروا هذا النور وهو صاعد ؛ حتى يصعد إلى عالم النور في الملأ الأعلى فيجعلها الله ملكاً يسبح الله بالتسبيحة التي سبح بها قائلها وتظل على هذا الحال إلى يوم الدين ويكتب ذلك في صحيفة هذا العبد إكراماً من الله لأمـة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا الكلام بالطبع كلام روحاني ولكن لا بد أن يكون له سند قرآني أو نبوي قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام الترمذي: {إن ما تذكرون الله تعالى به من التسبيحات والتهليلات والتكبيرات يخرجن ولهن دويٌّ كدوي النحل – أزيز أوصوت كصوت النحل – حتى يصلن إلى العرش فيطفـن حوله يذكّـِرن بصاحبهن إلى يـــــــوم القيامة} وفى رواية أخرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الذين يذكرون من جلال الله ، من تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله يتعاطفن حول العرش لهن دويٌّ كدوي النحل يذكِّرون بصاحبهن ، ألا يحب أحدكم أن لا يزال له عند الله شيء يذكر به؟ }{1} فأنت تقول سبحان الله ولا تلقي لها بالاً هذه الكلمة ؛ يطوف بها الملك حول العرش : {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} – ومن حوله : هي التسبيحات التي سبَّحناها – {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} غافر7 وعريضة طويلة يقدمونها إلى الله ، ومثلها كذلك ، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر المروي عن سيدنا رسول الله : {من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلَّى فلم يحدِّث نفسه بشيء ؛ خرجت وهي بيضاء مسفرة} – هذه الصلاة يخلق الله منها صورة روحانية نورانية بيضاء مسفرة – {حتى تصل إلى عنان السماء فتفتح لها أبواب السماء} وهذا الحديث يفصل كيفية دخول الأعمال إلى السماء: {فتفتح لها أبواب السماء} – ستدخل إذاً وسيغلق الباب بين الملكوت وعالم الأرض فتودِّع صاحبها قال فيها – {فتلتفت إلى صاحبها} بمعنى أن فيها حركة وفيها حياة وترى وتتكلم {وتقول له : حفظك الله كما حفظتني} فقد خلق منها إذاً صورة روحانية تصعد إلى عالم الملكوت الأعلى ، تعبد الله بجميع الحركات والأقوال والأفعال والدعوات التي قلتها لله وأنت في الصـلاة إلى يوم الدين وكل ذلك يبقى في صحيفة هذا العبد فهذه صورة ملكوتية تخرج من أعمال المؤمنين والمؤمنات ولذلك وهذا هو السر لا يأكلون ولا يشربون ولا يتزوجون ولا ينامون لأنها ليست هياكل مثلنا ولكنها صور ملكوتية ، والسماء ملأى بهذه الصور وهذه الصور مطبوع عليها صورة صاحبها ولذلك لما الواحد يكرمه الواحد ويفتح له عين الأعيان ويرى بعين القلب والجنان يرى صور هؤلاء الروحانيين في عوالم الملكوت الأعلى ، فيقول : لقد رأيتك في السماء الأولى أو رأيتك في الجنة أو في السماء السابعة مع أنه لم يذهب ، ولكن صوره الروحانية هي التي سافرت إلى هنـاك فيراها وكأنه رأى الشخص نفسه وهذا هو السر أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في عالم الملكوت الأعلى صور الأنبياء الذين واجههم وقابلهـم ورد عليهم وكلمهم في المسجد الأقصى المبارك ، بمعنى أنه رآهم جميعاً في المسجد الأقصى _ والمسجد الأقصى كمبنى لا يستوعبهم _ ولكن رآهم في عالمه الروحاني النــوراني ثم عرج إلى الملأ الأعلى وعند السماء الأولى استفتح الأمين جبريل ، فقالوا : ومن معك؟ لأنهم عرفوا أنه ليس بمفرده لأنه كان لا يستفتح قبل ذلك وطالما استفتح إذاً فهناك ضيف معه – مثلاً : عندما تدخل بيتك هل تستأذن؟ فلما يكون معك ضيف تطرق وتقول : يا أولاد - يعني استعدوا - أليس كذلك؟ وعندما استفتح جبريل وسألوه عمن معه ، قال محمد صلى الله عليه وسلم ، وعندما تسمع الإجابات التي ذكرتها وكالة الأنباء المحمدية تجد العجب فبعضهم يقول: أوقد بعث؟ بمعنى أنهم لا يعلمون أنه قد بعث – كيف يكون في السماء إذاً؟ والبعض الآخر يقول: أوقد أرسل إليه؟ فهناك صنفان ، صنف لا يعلم أنه قد بعث ، والصنف الآخر لا يعلم أن أرسل إليه لزيارة عالم الملكوت ، لم يعرف هؤلاء ولا هؤلاء ، من الذي يعرف؟ هم أهل التعيين وأهل الشهود وهم في عالم التكوين وهم الصديقون والشهداء والصالحون إذاً من فيهم هو الأعلى في المقام والأعلى في القدر؟ الصديقون والشهداء والصالحون لكن الآخرين لم يعرفوا فيسألون ، من الذي يسأل؟ الملائكة أو صور الملائكة من أعمال النبيين والمرسلين والصديقين والشهداء والصالحين ، من هذا؟ يقول له: آدم ، سلم عليه ، مع أن آدم كان معه قبل ذلك بلحظة في الأرض ، كيف صعد إلى السماء إذا ً؟ هذه صور أخرى للحقائق الروحانية والتي يعطينا الله أمثلة لها في المشاهدات الفرقانية لخير البرية صلى الله عليه وسلم ، ورأى يحيى وعيسى وموسى وهارون ويوسف - مع أن جميعهم كان معه في الأرض هنا_ وعندما رأوه هناك لم يعرفوا أنه بعث؟ ولذلك كانوا يسألون – لأنها صور ملكوتية نورانية للصالحين والنبيين والمرسلين وتفصيل الكلام فيها لا تسعه القلوب وإن اطلعت على الغيوب إلا بعد أن تخلو كلية من العيوب ويأخذها لحضرته علام الغيوب عز وجل ، لكن المعيوب ماذا يرى؟ إنها أمور فوق العقل وفوق الخيال وفوق الإدراك والتصوير فهي أمور كشفية نورانية شهودية لأهل الخصوصية الذين اختصهم الله بهذه النفحات والعطاءات الربانية والإلهية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} الأنعام75 بمعنى انه ليست السماء وحدها التي فيها ملكوت ولكن الأرض أيضاً فيها ملكوت فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسس هذا العلم الإلهي في الملكوت الأرضي ، فعندما كان ذاهباً إلى بيت الله الحرام مر على وادي فقال : لقد مر بهذا الوادي يونس بن متى ومعه سبـعون ألفاً من قومـه ، لقد رأى التسجيلات الملكوتية الكونية الموجودة في العوالم الأرضية من الذي يستطيع أن يكشفها؟ أو يطلع عليها؟ إلا أهل القلوب التقية النقية وفي مكان آخر قال : لقد مر بهذا الوادي عيسى بن مريم وله جؤار - أي له صوتٌ عالٍ - يلبي بصوت عالٍ ، ويسمع صوته سيدنا رسول الله ، وأماكن أخرى قال : لقد استظل بهذه الشجرة عيسى بن مريم ، لقد نزل تحت هذه الشجرة موسى بن عمران ، علَّم هذه الأماكن صلى الله عليه وسلم بعد حدوثها وأماكن أخرى قبل حدوثها لأنه رأى بروفة التمثيلية كلها وعاين ما سيحدث فيها مثلاً في غزوة بدر عندما ذهب إلى أرض المعركة ، قال : هنا سيموت فلان وهنا سيقتل فلان وهنا سيقضى على فلان وقد حدث وحدد الأماكن ، هل التمثيلية قد تمت بعد؟ ولكن لا بــد أن تتم كـما رأى وشـاهد وعاين صلى الله عليه وسلم ، ولم يحدد موضعاً لمصارع القوم إلا وقد حدث ولم يخطئ موضعاً واحداً صلوات ربي وتسليماته عليه نَفْسُ هذه الهبات يمنُّ الله بها وراثة عن الحبيب صلى الله عليه وسلم لعباد الله الصالحين وكان الشيخ على الخواص رضي الله عنه - شيخ سيدي عبدالوهاب الشعراني ، وسيدي على الخواص - كان أمياً في عالم القراءة والكتابة الدنيوية ولكنه كان قارئاً للعوالم كلها بالعلوم الكشفية وكان على أيامه يضعون الحبر في دواة - يسمونها المحبرة _ والقلم كان قلم من بوص وكان من ضمن قدرات سيدنا على الخواص النورانية عندما ينظر لأي دواة بها حبر ، يقول : هذا الحبر سيكتب به كذا وكذا وكذا وكل الكلمات التي ستكتب به حتى ينتهي المداد ، كيف؟ لا تقول كيف ، لأنها علوم فوق العقول علوم كشفية نورانية من الله وكان في عصره رضي الله عنه وأرضاه مغطس في كل مسجد وهو مثل البركة مملوءة بالماء يغطس فيه الناس ليغتسلوا من الجنابة حيث كان لا يوجد في ذلك الوقت الدش أو الحنفيات أو هذه الأشياء الحديثة فكان يذهب عند المغطس وينظر ، ويقول : هذا غسل فلان وهذا غسل فلان وهذا غسل فلان وكأن الماء به كربون ويسجل كل من اغتسل فيه وان تعجب فعجب كما يقول الله لكن لا عجب عند العارفين رضي الله عنهم وأرضاهم وكان يقول لتلميذه سيدي عبدالوهـاب الشعــراني رضي الله عنه: " لا يكون الرجل من الصالحين حتى يطعم الجم الغفير من كسرة خبز" أي إذا استطاع أن يؤكل جماعة كبيرة من كسرة خبز فهي مرتبة الصلاح ، وإذا لم يبلغ ذلك فيلزمه أن يجاهد لكي يشاهد ويصبح من أهل هذه المشاهد لأنه لو دخل في رحاب الصالحين واعتمد على العالم الحسي سينكشف ، لأن المحسوسات من يتغطى بها عريان لكن الذي يغطي الإنسان لكي يستطيع أن يمشي في عالم الروحانيات : هو الرحمن عز وجل وما دام الحق عز وجل سيغطيه إذاً سيكفيه ويكفي كل من يلوذ به بأمر خالقه وباريه ، سيجعل كوب شاي _ مثل الذي معي الآن _ يكفي كل هذه الجماعة ويشربوا إلى أن يشبعوا ، من أين؟ إذا نزلت عناية الله لكن إذا كان يعتمد على عالم المحسوسات في هذه الحالة يحتاج لفرع من هيلتون وفرع من شيراتون لكي يكفي هؤلاء القوم ولن يكفي أيضاً فلا بد أن يكون معه غطاء من عالم الروحانيات ليكفي هؤلاء الناس في عالم المحسوسات {1} رواه الإمام أحمد فى مسنده عن النعمان بن بشير