السلام عليكم :- أهلا بكم اعضاء وزوار منتديات ايجى نت الرهينة....طبيب شرعي!!!) #الحلقة_الأولى إنه يوم شم النسيم حيث أتجنب الخروج من منزلي هربا من تلك الروائح العجيبة التي تنتشر في الهواء و تتسلل إلى أنفي رغما عني، و قد كانت عادتي أن أقضيه على إحدى الشواطئ البعيدة مع أسرتي- إلا أن كوني (نبطشي تحت الطلب) جعلني أقضيه بالمنزل بمفردي بينما قامت زوجتي و أطفالي بالذهاب إلى منزل العائلة لعمل (فسيخ بارتي) حيث أنني من ألد أعداء الفسيخ نظرا لأن رائحته تذكرني برائحة أشمها كثيرا أثناء عملي !!! و انتهازا لفرصة وجودي بمفردي- قمت باستغلال هذا اليوم لعمل الكثير من الاعمال المنزلية المؤجلة منذ زمن بعيد كتغيير مصباح غرفة الضيوف المحترق و تغيير أجزاء من فلتر مياه الشرب و اعادة ضبط قنوات الستالايت و (تسطيب) نظام ويندوز جديد للكومبيوتر، و كانت كلها انجازات لا يمكن الانتهاء منها في ظل وجود أطفالي بأي حال من الأحوال. كانت الساعة قد قاربت الرابعة و النصف عصرا و قد شارفت النبطشية على الانتهاء تقريبا، و كنت قد هممت بتناول طعام الغداء المكون من (مكرونة باشاميل) و سلطة – إلا أن رنين هاتفي المحمول قد انطلق معلنا نهاية آمالي بانتهاء النبطشية و الاجهاز على المكرونة الباشاميل!!! كان المتصل هو (عم سبع ) فني التشريح يخبرني أن هناك حالة تشريح بمشرحة المستشفى العام و أن قرار النيابة قد صدر بانتداب الطب الشرعي لإجراء التشريح، و على الرغم من أن المتعارف عليه أن مثل تلك الحالات المتأخرة يتم تأجيلها إلى اليوم التالي إلا أن (عم سبع) أبلغني أن الحالة (مستعجلة) و أن وكيل النيابة بانتظارنا في المستشفى!! قمت بارتداء ملابسي و أخذ حقيبتي التي اعتدت أخذها في مثل تلك الحالات و كذلك البالطو الأبيض خاصتي، و توجهت مباشرة إلى المستشفى العام، و ما إن اقتربت من المشرحة حتى وجدت جمعا محتشدا من الناس خارج المشرحة و ميزت من بينهم عدة ضباط شرطة فتوجهت إليهم و قد كنت على معرفة بأحدهم فبادرته بالتحية و قلت له: السلام عليكم يا (منصور باشا)...ايه في ايه؟؟ رد الشرطي: و عليكم السلام دكتور (مصطفى)...أهلا وسهلا....والله مفيش أهو قرف من بتاع كل يوم. رددت عليه مندهشا: قرف ايه ؟؟ هي الجثة فيها مشكلة ولاّ ايه؟؟ رد الشرطي: لا عادي...ده واد شمام شكله خد جرعة زيادة و مات من حوالي ساعتين ...و لما أهله عرفوا إن وكيل النيابة جاي علشان يناظر الجثة و يؤمر بالتشريح و في تحقيق و حوارات راحوا داخلين المشرحة و قافلين عليهم من جوة و مش راضيين يفتحوا. بدا و كأن هناك خطأ ما فسألته: هو وكيل النيابة مكانش لسة عمل مناظرة للجثة؟؟ قال الشرطي و هو يخفض صوته: لا لسة ماشافش حاجة....أهو هناك أهو واقف مستني أهل الميت يفتحوا باب المشرحة – ثم أشار إلى شاب في منتصف العشرينيات من العمر يقف بالقرب من باب المشرحة و حوله عدة أشخاص. توجهت إلى وكيل النيابة الذي كنت أراه لأول مرة على الرغم من معرفتي بكافة أعضاء النيابة، و قمت بتعريف نفسي له فرد عليّ باقتضاب: أهلا و سهلا يا دكتور. سألته: هو حضرتك ناظرت جثة المرحوم ولاّ لسة؟؟ رد وكيل النيابة متضايقا: لا لسة...على ما جيت كان أهله قفلوا المشرحة. قلت له و قد بدا عليّ الضيق أنا أيضا: و على أي أساس حضرتك اصدرت قرار بانتداب الطب الشرعي لإجراء التشريح من غير مناظرة الجثة؟؟ افرض الوفاة طبيعية أو حتى يمكن الضحية لسة على قيد الحياة؟؟ بدا الانفعال على وجه وكيل النيابة قبل أن يقول: جرى ايه يا دكتور؟؟ حضرتك حتعلمني شغلي ولاّ ايه؟؟ يعني أنا نازل في يوم اجازة من استراحة النيابة علشان أشوف شغلي و انت مكسل تنزل ولاّ ايه؟؟ في هذه اللحظة شعرت أنه قد بدأ في تخطي حدوده فقلت له: مبدئيا أنا أول مرة أشوف حضرتك و واضح إنك جديد ..بس ممكن اقولك إنه علميا نقل المتوفى للمشرحة مش لازم يتم قبل 4 ساعات من اعلان الوفاة و دفنه مش قبل 8 – 10 ساعات من اعلان الوفاة منعا للخطأ أو دفن شخص حي....و من الواضح إن حضرتك اصدرت قرار التشريح بدري قوي حتى قبل ما تشوف الجثة...و ده خطأ كبير. صاح وكيل النيابة قائلا: أنا اللي اقول مين يتشرح و مين لأ و امتى....و أنا محدش يحاسبني على قراراتي و مش حتعلمونا شغلنا على آخر الزمن. قلت له بحزم: عموما أنا كلامي مش معاك دلوقتي...كلامي مع سيادة المستشار المحامي العام بعد ما أخلص الحالة دي. ثم تركته و ذهبت للانتظار في ركن آخر مجاور للمشرحة. كانت أحداث الواقعة تدور حول أن المتوفى قد تم نقله إلى المستشفى و هو فاقد للوعي و ذلك صحبة أمه المسنة و أخيه، و ما إن وصل إلى المستشفى حتى أعلن طبيب الاستقبال المناوب وفاة الشخص و أمر بنقله إلى ثلاجة الموتى و قام بإبلاغ نقطة الشرطة التي قامت بدورها بإبلاغ النيابة، و ما إن تم نقل الجثمان إلى المشرحة حتى انتابت أخاه حالة من الهياج قام على إثرها بطرد عامل المستشفى المرافق لهم من المشرحة و قام بإغلاق المشرحة من الداخل و بصحبته أمه المسنة. كان بعض أفراد الشرطة قد حاولوا التفاوض مع أخو المتوفى من أجل السماح لهم بالدخول إلى المشرحة لتمكين وكيل النيابة من أداء عمله، إلا أن الأخ رفض باستماته بل و هدد بقتل نفسه و أمه و احراق المشرحة في حال محاولة أفراد الشرطة اقتحام المشرحة. كان من الواضح وجود حالة من التوتر و العصبية تشوب أداء المتواجدين حول المشرحة خاصة مع تعالي صيحات الأخ من داخل المشرحة بجُمل غاضبة على غرار (يعني مراته تقتله و انتوا تشرحوه؟؟) (حتعملوا في أخويا ايه يا أولاد .........)، و كذلك كان مسموعا بوضوح عويل الأم من داخل المشرحة. كنت أنا أيضا قد بدأت أشعر بالتوتر و الضيق من هذا الموقف السخيف لاسيما أن الشمس قد غربت و هو ما سيجعل اجراء الصفة التشريحية أمرا صعبا ليلا، ففكرت أنه ربما يمكنني اقناع وكيل النيابة حديث التعيين بالعدول عن قرار التشريح أو استبداله بقرار آخر أقل وطأة على أهل المتوفى كإجراء كشف ظاهري و سحب عينات للتحليل الكيماوي. توجهت لوكيل النيابة الذي بدا متحفزا عند اقترابي منه و قلت له: بعد إذنك...أنا عندي اقتراح....ممكن لو اهل الميت رافضين التشريح التقليدي...ممكن حضرتك تعدّل القرار بإجراء كشف ظاهري و سحب عينات دم و بول من المتوفى لتحليلها، و ممكن نعمل أشعات مقطعية على الجثمان نستبعد من خلالها وجود اصابات بالمتوفى، و ده حيخلي أهل المتوفى ممكن يوافقوا على فحص الجثة. نظر لي وكيل النيابة باستنكار و هو يقول: يعني حيمشّوا كلامهم عليّا ولاّ ايه؟؟ قلت له بنبرة هادئة: مش مسألة يمشّوا كلامهم عليك...حضرتك أمرت بالتشريح من غير ما تشوف الجثة، و هما فاكرين ان التشريح بهدلة للميت و تقطيع في جسمه، و زي ما انت شايف الوضع متوتر....الاقتراح اللي قلت لك عليه ده ممكن يخليهم يوافقوا فيما بعد على اجراء التشريح لو اكتشفنا حاجة في الأشعة المقطعية و انا ممكن اقنعهم بالتشريح بطريقتي. بدا الاقتناع على وجه وكيل النيابة و قال: طب يعني الأشعة المقطعية دي تغني عن التشريح فعلا و ايه نظامها؟؟ قلت له: هي مش زي التشريح طبعا بس بتوضح معظم أعضاء الجسم و العظام و مش بتاخد وقت زي التشريح و مفيهاش دم و لا بنفتح الجثة و ده حيكون مقبول للأهل. فجأة صاح وكيل النيابة مخاطبا أخو المتوفى المعتصم في المشرحة و قال: إنت يا بني آدم ياللي جوة....خلاص مفيش تشريح...الطبيب الشرعي جه أهو و بيقول حيفحص الجثة من برة بس و يعمل أشعة من غير تقطيع في الجثة و لا دم .....افتح الباب بقى علشان نشوف شغلنا. كانت الخطوة التي قام بها وكيل النيابة مفاجئة للغاية حتى أنني شخصيا اندهشت من اندفاعه و اتخاذه لهذا القرار دون مناقشة التفاصيل معي او مع الضباط المتواجدين لربما يكون هناك أمر ينبغي اتخاذ بعض الاحتياطات له، إلا أن وكيل النيابة كان قد قام بخطوته بالفعل !! مرت عدة دقائق قبل أن يرد الأخ الغاضب من داخل المشرحة قائلا: انتوا فاكريني عيّل صغيّر بريالة تضحكوا عليه ولاّ ايه؟؟؟ فين الدكتور ده يا أولاد ال...........؟؟؟ تطوع أحد الضباط الحاضرين و أشار إليّ و قال: الدكتور أهو يا بني آدم إنت ...إفتح الباب و بُص حتلاقيه. قام الأخ الغاضب بفتح الباب و نظر من خلف الباب الموارب و قال: أسمع الكلام ده من الدكتور نفسه. في تلك اللحظة نظر إليّ الجميع كـأنهم يطلبون مني الحديث مما اضطرني للنطق بصوت مرتفع: أيوا يا حبيبي...أنا الطبيب الشرعي...البقاء و الدوام لله ...ربنا يصبركم....أنا اتفقت مع وكيل النيابة إننا مش حنعمل تشريح للجثة ....حناخد الجثة نعمل أشعة مقطعية على الجسم كله و نسحب عينة دم بسرنجة علشان نحللها ...و بعدين نعمل لكم تصريح الدفن و تاخدوه تدفنوه. صاح الأخ الغاضب من خلف الباب و قال: أنا مش سامعك كويس يا دكتور...قرّب شوية من الباب علشان أمي كمان تسمع و تطمن علشان سمعها تقيل شوية. بمنتهى التلقائية اقتربت من الباب المغلق و قلت بنبرة عالية حاولت اضفاء صبغة ودية عليها: يا حاجة البقاء لله ...ربنا يصبرك ...مش حنعمل تشريح لابنك خلاص ...احنا بس ح..... و فجأة انفتح الباب و قام الأخ بمباغتتي و جذبي من تلابيبي بقوة و سحبي إلى داخل المشرحة ثم قام بإغلاق الباب خلفي، أما أنا فقد سقطت على الارض داخل المشرحة بفعل المفاجأة و قوة سحب الرجل لي. ثم استدار الرجل الغاضب نحوي و قد كان رجلا ضخما يفوقني حجما و قوة و نظر لي نظرة يملأها الشر و الغضب و اقترب مني و هو يحمل مطواة بيده و قال صارخا: بقى انت عاوز تقطع أخويا حتت و تسرق من جتته يا ابن ال.......؟؟؟ و رحمة أخويا لأنيمك جمبه. ثم انقض عليّ و هو يلوح بالمطواة، و في هذه اللحظة كنت عاجزا عن الحركة تماما بفعل المفاجأة و الرعب، و كل ما جال بخاطري أن نهايتي قد اقتربت و نطقت بالشهادتين و أغمضت عيني مستسلما لمصيري #الحلقة_الثانية_والأخيرة كنت قد ايقنت حقا انها النهاية و مر شريط حياتي كله أمام عيني، و لكن فجأة انقضت الأم المسنة على ابنها الغاضب و دفعته بعيدا عني و هي توبخه صارخة: يخرب بيتك بتعمل ايه يا ابن ال......؟؟؟ عاوز تجيب لنا مصيبة؟؟ يعني اخوك يموت و انت تتحبس؟؟؟ بتعمل ايه يا مجنون؟؟ فتحت عيناي على ذلك المشهد و قد كنت ما زلت غير مستوعبا ما يحدث أمامي...الحقيقة أنني دائما ما كنت متماسكا أمام مئات الجثث و عشرات القصص المرعبة عن الموتى، و لكنني كنت دائما لا أتمالك نفسي عندما أتعرض لموقف خطير كهذا و أصبح مشلولا عن الحركة و التفكير. انحنت الأم المسنة و هي تأخذ بيدي لأنهض من على الارض و هي تقول باستعطاف باكية: و النبي يا بيه تسامحه ده عيل مجنون....و النبي يا بيه ما تعمل فيه حاجة...اعذره أخوه ميت قدامه و الحكومة عاوزة تقطعه حتت.....عيل و غُلط الهي لا يسيئك. كنت قد بدأت ألتقط أنفاسي و اتمالك اعصابي فنظرت للأخ الغاضب فوجدته يسد باب المشرحة بجسده، ثم نظرت للأم و قلت لها غاضبا: اللي عمله ابنك ده حيتحاسب عليه و مش حيعدي بالراحة، حيتسجن يا حاجة ده لو الناس اللي برة مدخلوش ضربوه بالنار هنا. صرخ الأخ الغاضب و قال لي متحديا: يضربوا مين بالنار...ده لو حد هوّب ناحيتنا حأقتلك و أولع في المشرحة و أقلبها ضلمة. كان من الواضح أن الأخ قد فقد عقله فعليا و لا طائل من مواجهته أو الحديث معه، فتوجهت بكلامي للأم و قلت لها: خلي ابنك يا حاجة يعقل و يفتح الباب و نشوف شغلنا، و أنا والله مش حأخليهم يعملوا حاجة في الجثة. نظرت لي الأم و هي تبكي: منها لله البعيدة مراته ..هيّ اللي حطت له السم في الأكل، كانت غضبانة عند أهلها بقى لها أسبوع و رجعت امبارح ضحكت على الولا و حطت له السم في الأكل و أول ما مات هربت بسيغتها الصبح و سابته مرمي في البيت. كانت قصة الأم مع بكاءها فرصة لكي أحاول الوصول لحل للمصيبة التي وقعت بها فقلت لها: ربنا يرحمه يا حاجة...أنا هنا والله العظيم علشان أجيب له حقه...خليني طيب أسحب منه عينة دم بسرنجة من غير تشريح علشان أعرف المفترية مراته حطت له سم ايه، و آخد الجثة أعملها أشعة يمكن تكون خبطته في دماغه و لا عملت فيه حاجة...نعرف نسجنها و نبهدلها بعد كده. كانت الأم قد بدأت تهدأ و ظهر عليها الاقتناع بحديثي...إلا أن الأخ الغاضب قاطع حديثي قائلا: متسمعيش كلامه يا أَمّاا...بيضحك علينا حياخدوا أخويا يقطعوه برة و المصحف....دي حكومة بنت......... توجهت بحديثي مرة أخرى للأم قائلا: يا حاجة أقسم بالله ما هيحصل....مفيش برة مشرحة تانية، و أنا اتفقت مع وكيل النيابة خلاص....متخليش الواد ابنك يبوظ الدنيا و يضيّع نفسه، خليه يفتح الباب و أنا حأقول اننا كنا بنتكلم و محصلش حاجة. نظرت الأم لابنها و قالت: خلاص يا ابني خلي الدكتور يخرج و يشوف شغله....الراجل حلف بالله...بلاش تجيب لنا مصيبة . صاح الأخ غاضبا: المصيبة جت خلاص....أخويا مات و اللي حصل حصل....الحكومة اللي برة دي لو دخلت حتقتلنا احنا كمان. في هذه اللحظة شعرت أنه ربما عليّ محاولة الحديث مع الأخ الغاضب و التقليل من مخاوفه فقلت له: بص يا أخ انت...طول ما انا معاكم محدش حيقرب لكم، و انا كلمتي واحدة...حاخد عينة الدم من اخوك و نعمل له أشعة و نشوف مات ازاي. بدا التردد على الأخ الغاضب و هو يقول: متاخدش أخويا برة ...خد عينة الدم و اطلع حللها برة و اعمل تصريح الدفن. كان هذا تطورا ايجابيا يتيح لي النجاة بنفسي على الاقل من هذا المأزق الجنوني، و عند خروجي تصبح الكرة في ملعب الشرطة و النيابة و ليفعلوا ما يحلو لهم، فقلت للأخ: حاضر...بص ناولني الشنطة بتاعتي اللي عند الباب دي آخد منها سرنجة أسحب فيها العينات. فقام الأخ برمي الشنطة لي و كنت معتادا أن أضع فيها أدوات بسيطة سرنجة و سماعة طبية و كشاف طبي صغير (torch)، و قلت للأم محاولا استخلاص أي معلومات منها قبل أخذ العينة من جثة المتوفى: هو المرحوم يا حاجة مكانش بيتعالج من أي حاجة أو بيتعاطى أي أدوية؟؟ ردت الأم بحزن: لا يا ابني ده صحته كانت بمب و لا عمره خد برشامة...منها لله مراته بنت ال...... هي اللي جابت أجله. نظرت إلى الأخ و سألته نفس السؤال فقال بتردد: هو كان كويس بس أحيانا كان بياخد برشام علشان يعرف يشتغل في الورشة. سألته بفضول : البرشام ده اسمه ايه؟؟ رد الأخ قائلا: و كتاب الله ما اعرف..هو اللي كان بيقول لما بأشوفه بياخد حبوب حمرا كده. كان يبدو أن هناك شيئا ما يخفيه كلا من الأخ و الأم عني بما يتعلق بتعاطي المتوفى لبعض الممنوعات أو العقاقير المخدرة مما من شأنه أن يساعدني في تخمين سبب الوفاة- إلا أن كلاهما لم يحاولا مساعدتي. تقدمت أنا بخطوات هادئة ناحية الجثمان المسجى على رخامة المشرحة و المغطى بملاءة بيضاء و رفعتها على مهل، كان اسفلها يرقد جثمان رجل في منتصف الثلاثينيات من العمر شاحب البشرة، لا تبدو على جسده أي اصابات ظاهرة، و كان هناك سائل رغوي يخرج من فمه، قمت بلمس جلده فوجدته باردا إلى حد ما. قمت بإخراج السرنجة من حقيبتي و ازالة غلافها، و بحركة تلقائية لازمتني منذ كنت طبيبا للطوارئ في السابق- قمت بجس نبض المريض من جهة الرسغ الأيمن و على الرغم من أنه من المفترض ألا يوجد نبض بالميت إلا أنني فعلت تلك الحركة بصورة عفوية، و لوهلة شعرت بنبض ضعيف و لكنني حاولت اقناع نفسي ان ما شعرت به هو النبض في أطراف أصابعي، فقمت بوضع أصابعي فوق العنق محاولا تحسس شرايين الرقبة للتأكد من حقيقة ما شعرت به فأحسست هذه المرة بنبض ضعيف للغاية...هذه المرة كنت متأكدا أنه لم يكن نبضي أنا !!! أسرعت و أخرجت السماعة الطبية من حقيبتي و قمت بوضعها على صدر المتوفى فسمعت صوت ضربات القلب و التنفس خافتة للغاية بفعل وجود كثير من السوائل على الرئتين، و لمزيد من التأكد فحصت حدقتي العين باستخدام الكشاف الطبي الصغير (torch) و تبينت أن على الرغم من اتساع حدقتي العينين إلا أنهما تتحركان ببطء شديد، و في هذه اللحظة لم يعد لدي شك أن الشخص الماثل بين يدي ليس ميتا، بل هو في غيبوبة عميقة. في هذه اللحظة انتفضت و صرخت بأعلى صوتي مناديا الأخ و الأم قائلا: ابنكم لسة فيه الروح ...يللا نخرجه على المستشفى فوق بسرعة. كانت كلماتي أشبه بقنبلة انفجرت في وجهيهما فما كان من الأخ إلا أن قال: إنت بتضحك علينا علشان تسرق الجثة و تبهدلوها... قسما بالله لأقتلك لو قربت من أخويا. لحظتها لم أتمالك نفسي و لم أشعر بنفسي إلا و أنا أهاجم الأخ و أجذبه من ملابسه بقوة و أنا أصرخ: أخوك صاحي يا ابن ال..........، أقسم بالله صاحي و إنت اللي حتقتله، مفيش وقت للبلطجة بتاعتك دي...أخوك حيضيع مننا في أي لحظة. صرخت الأم قائلة: أبوس ايدك يا دكتور ما تضحك علينا...ضنايا عايش يا دكتور؟؟ ثم انحنت على يدي تقبلها، فما كان مني إلا أن قلت لها: أقسم بالله عايش يا حاجة بس في غيبوبة و يا نلحقه يا منلحقهوش، أبوس ايدك يا حاجة خلي ابنك يفتح الباب، يا إما حيبقى عندك ابن ميت و ابن مسجون و انتي السبب. نظرت الأم إلى ابنها الغاضب و قالت له متوسلة: سايقة عليك النبي تخرج أخوك من هنا يا ابني، الدكتور بيقول أخوك في غيبوبة ...افتح بقى. نظر إلينا الأخ بفزع بينما مازال يسد باب المشرحة و قال: الحكومة حتسجني و تقتلني لو فتحت الباب. قلت له و قد بلغت ذروة غضبي: اطلع اهرب من الشباك اللي فوق التلاجة دي بسرعة....أنا مش حأفتح الباب الا لما انت تخرج...الشباك بيطلع على الجنينة ورا محدش حيشوفك. أدى صوتي العالي إلى محاولة بعض افراد الشرطة اقتحام المشرحة، بينما تعالت صرخات الام تتوسل لابنها الغاضب كي يرحل، و كان موقفا جنونيا بكل معنى الكلمة، و لم أشعر بنفسي إلا و قد تجاهلت وجود مطواة مع الأخ الغاضب و انقضضت أجذبه من ملابسه بعيدا عن باب المشرحة و أنا أصرخ: اهرب بقى و لا أخفى في ستين داهية...أخوك حيمووووت. لم يضيع الأخ الوقت و بالفعل قفز فوق ثلاجة حفظ الموتى ثم عبر الشباك، و ما إن اختفى حتى اسرعت أنا بفتح باب المشرحة و انا أصرخ قائلا: تروللي بسرعة هنا يا جماعة....الراجل لسة حي....يلا بسرعة. فوجئ الجميع بخروجي من المشرحة و اسرع أحد العمال بإحضار نقالة و وضعنا عليها الرجل و تحركنا به بسرعة إلى غرفة الافاقة في استقبال المستشفى، و كانت الأم متشبثة بيد ابنها الغائب عن الوعي تصرخ و تولول و ترجو من الجميع انقاذ ابنها. و ما إن وصلنا إلى غرفة الافاقة حتى بدأ الاطباء المناوبون إجراءات الافاقة للرجل و سحب التحاليل اللازمة بينما انتظرت أنا بالخارج التقط أنفاسي، و كان وكيل النيابة مذهولا من سرعة الأحداث المتلاحقة و قد اقترب مني و هو يتساءل: هو المتوفى صاحي فعلا يا دكتور؟؟ أجبته بغلظة و صوت عالي: أيوا طلع صاحي و في غيبوبة عميقة...ممكن يكون واخد جرعة عالية من دوا منوم أو مخدر خلاه يدخل في الغيبوبة دي. بدا الاندهاش على وجه وكيل النيابة و قال: هو انت عرفت ازاي؟؟ قلت له مستنكرا: عرفت إزاي؟؟ أنا شغلتي أشخص الوفاة حصلت ولاّ لأ ..مش شغلتي تشريح ميتين بس، انت بقى شغلتك تبعت حد يشوف بواقي شرايط دوا فاضية في بيت المريض علشان نعرف هو خد ايه علشان نعرف نعالجه صح. ثم انصرفت تاركا اياه في تلك المهزلة متكاملة الأركان و متعددة الاطراف، و ذهبت إلى منزلي و أنا في قمة الانهاك النفسي و الجسدي، حتى أنني لم أتحدث مع أي من افراد اسرتي ليلتها و لو بكلمة، و نمت ليلتها بعمق من فرط التعب. في صباح اليوم التالي توجهت إلى مكتبي و أنا في منتهى الغضب و قمت بكتابة مذكرة شديدة اللهجة أشكو فيها كلا من الطبيب الذي أعلن وفاة الرجل بصورة خاطئة، و كذلك أشكو فيها وكيل النيابة المبتدئ الذي عاملني بطريقة غير لائقة و أصدر قرار تشريح دون مناظرة الجثة التي اتضح فيما بعد أن صاحبها حي و ليس بميت، و قمت بإرسال المذكرة إلى مكتب المحامي العام المشرف على النيابة المختصة. و في الأيام القليلة التالية قمت بالاتصال ببعض الأطباء في المستشفى العام لمعرفة ما وصلت إليه حالة ذلك الرجل و ما هي ظروف مرضه، كان الرجل يعمل بورشة سيارات و كان على خلاف دائم مع زوجته، و في يوم الواقعة و عقب هجر زوجته لبيته قام بتناول 20 كبسولة من عقار ال(سيكونال) المنوم بغرض الانتحار مما أدى إلى دخوله في تلك الغيبوبة العميقة، إلا أن مجهودات الأطباء نجحت في إنقاذه و لكنه للأسف عانى من مضاعفات بالجهازين العصبي و الحركي نتيجة الغيبوبة العميقة التي تعرض لها. بالنسبة لي اتضح الموقف كاملا فقد كان عقار ال(سيكونال) يحتوى على مادة ال(Secobarbital) و هي مادة منومة يؤدي تناول الجرعات الزائدة منها إلى غيبوبة عميقة تجعل الضحية أشبه بالميت في حالة تسمى علميا (apparent death) حيث يكون الضحية ميت ظاهريا نظرا لأن جميع العمليات الحيوية للجسم تكون في أقل معدلاتها و أقرب للوفاة منها للحياة، و مثل تلك الحالة من الشائع أن لا يتم تشخيصها بواسطة الأطباء المبتدئين. مرت عدة أيام قبل أن أتلقى استدعاءا من النيابة العامة للمثول في تحقيق حول الواقعة، فظننت أنه ربما تم التحقيق ايضا في المذكرة المقدمة مني، و بالفعل توجهت للنيابة و ما إن وصلت حتى طلبوا مني التوجه لمكتب رئيس النيابة الذي ما إن طرقت الباب و دخلت إلى مكتبه حتى قام بالترحيب بي و تبادلنا بعض عبارات المجاملة و كان وكيل النيابة الذي قمت بكتابة المذكرة ضده موجودا أيضا بالمكتب. و ما هي الا لحظات حتى استدعى رئيس النيابة متهما ما حتى يبدأ التحقيق، و اتضح أن المتهم هو (الأخ الغاضب) - الذي ما إن رآني حتى طأطأ رأسه في الارض بخجل. بدأ رئيس النيابة التحقيق و سألني: دكتور (مصطفى)...هو ده المتهم اللي تعدى عليك في المشرحة؟؟ أجبت بهدوء: محدش تعدى عليّا في المشرحة يافندم. نظر لي رئيس النيابة باندهاش و هو يقول: إزاي يا دكتور؟؟؟ المتهم اللي قدامك ده جميع الشهود شافوه و هو بيتعدى على موظف حكومي أثناء تأدية عمله...و الموظف ده يبقى حضرتك رددت بهدوء مبتسما: أولا الواقعة حصلت بينما أنا لم أبدأ عملي يا فندم لإن عملي يبدأ بعد معاينة وكيل النيابة المختص للجثمان و ده محصلش، ثانيا أنا تطوعت بالتعامل مع المتهم بصفة ودية و ليست رسمية. رد رئيس النيابة بانفعال: يا دكتور الشهود كلهم شافوه و هو بيشدك لداخل المشرحة و بيحتجزك. قلت بهدوء: هو فعلا شدني علشان أشوف جثة أخوه بصفتي طبيب بس هو محتجزنيش و لا حاجة بدليل إني طلعت من المشرحة سليم. تساءل رئيس النيابة مستنكرا: أومال هرب ليه من المشرحة إذا كان معملش حاجة غلط؟؟ أجبته بهدوئي المستفز: أنا طلبت منه يهرب علشان الموقف كان حرج و أنا خفت إن انشغال الشرطة و النيابة بمحاولة الامساك به تضيع علينا فرصة انقاذ أخوه اللي كان في غيبوبة. قال رئيس النيابة بغضب: يافندم المتهم اعترف انه هددك بمطواة و انت جوة المشرحة...دي كمان محصلتش؟؟ في تلك اللحظة لم يكن بمقدوري الكذب أو التماس عذر للمتهم، فنظرت إلى المتهم و وجدته ينظر إلي نظرات تحمل مزيجا من الامتنان و الحزن، فما كان مني إلا أن قلت لرئيس النيابة: بعد إذن حضرتك ياريت المتهم يخرج برة علشان في كلام مهم عاوز أقوله لحضرتك. حينها أمر رئيس النيابة بإخراج المتهم خارج المكتب ثم نظر إلي بغضب و هو يقول: إنت بتعرقل العدالة بطريقتك دي يا دكتور....الناس شافوا الواد و هو بيشدك جوة المشرحة و هو اعترف انه هددك بمطواة....ايه سبب شهادتك الغريبة دي؟؟ رددت بهدوء و حزم و أنا أقول: شوف يا معالي المستشار...العدالة بتقول ان الطبيب اللي تسرع و أعلن الوفاة بالخطأ يتحاسب، و إن وكيل النيابة اللي تسرع و انتدبني لإجراء التشريح قبل ما يشوف الجثة يتحاسب، و من الواضح إن المذكرة اللي انا كتبتها محدش اهتم بيها...و الواضح برضه إن المتهم ده هو الوحيد اللي حيتحاسب، الحقيقة إن المتهم و اسرته ضحية لأخطاء الطبيب المبتدئ و وكيل النيابة المبتدئ برضه، و رد فعل المتهم و اسرته كان عفوي لانهم ناس شكلهم على قد حالهم و تفكيرهم محدود....و أنا مش حأتسبب في حبس المتهم اللي هو العائل الوحيد لأمه المسنة و أخوه المشلول و أسرته....العدالة بتقول المتهم و الطبيب و وكيل النيابة يتحاسبوا...و الرحمة تقتضي مسامحة المتهم.....و أنا مع الرحمة مش مع العدالة في القضية دي. نظر لي رئيس النيابة مندهشا و هو يقول: ايه الكلام ده يا دكتور؟؟؟ رددت بسرعة: ده اللي عندي...أنا لا أوجه أي اتهام لأي شخص ..و كل اللي حصل عبارة عن سوء تفاهم و سوء تقدير من الجميع...و أنا مسامح في حقي . ابتسم رئيس النيابة و قال: مش عارف أقولك ايه يا دكتور..احرجتني بكرم أخلاقك....عموما أنا بأعتذر لك عن سوء التفاهم اللي حصل بسبب (شريف) بك. ثم نظر لوكيل النيابة بجواره نظرة ذات مغزى دفعته لكي يقول هو أيضا: أنا آسف يا دكتور (مصطفى) عن موقفي و ياريت تقبل اعتذاري و تتفضل تشرب القهوة معايا في المكتب. رددت بهدوء و قلت : لا مفيش حاجة...إن شاء الله نأجل القهوة لوقت تاني علشان زميلي في المكتب لوحده و عندنا قضايا كتير. قال رئيس النيابة موجها حديثه لسكرتير النيابة: يخلى سبيل المتهم (.........) من سراي النيابة و يغلق التحقيق في ساعته و تاريخه. عندها نهضت بسرعة و استأذنت بالانصراف، و ما إن خرجت من المكتب حتى وجدت المتهم رفقة الحراس و والدته منتظرين أمام المكتب، و ما إن رأتني والدته إلا و قد استوقفتني و يبدو انها عرفت ما بدر مني بحق ابنها المتهم – وقالت: ربنا يخليك يا دكتور و يسترها معاك دنيا و آخرة و لا يوقعك في ضيقة. رددت عليها قائلا: ربنا يخليكي يا حاجة. ردت متسائلة: طب عيادتك فين يا دكتور علشان نيجي نكشف عندك ؟؟ قلت لها: والله يا حاجة معنديش عيادة. قالت: طب بتبقى في المستشفى امتى نجيلك؟؟ رددت مبتسما: مش بأشتغل في مستشفيات يا حاجة والله. بدا الاندهاش على وجهها و هي تقول: يعني لا بتروح عيادة و لا مستشفى...أومال دكتور ازاي يا ابني؟؟ قلت لها ضاحكا : أمر الله يا حاجة....و يخلق ما لا تعلمون!!!! و هنا أنفجر جميع الحاضرين بالضحك...و لأول مرة منذ زمن بعيد تنتهي قضية بنهاية نادرة في الطب الشرعي...نهاية سعيدة!! (تمت)