كان الخلاف يومها شديداً حول "ركن الثقة"، فلم يقنعني ولَم أقنعه؛ إذ إني لا أؤمن إلا بالبرهان والدليل والتفكير المنطقي للأشياء، ذلك المنهج الذي جاء به القرآن، وهو ذات المنهج الذي يختلف مع التسليم لقوى عُليا، تتبنى التفكير وتترك لك التنفيذ. معركة التبرير عقب وصول الرئيس مرسي للحكم كان التبرير للشيء ونقيضه سياسة يتبارى فيها الجميع، لا سيما المسؤولين، حتى ولو لم يكونوا مقتنعين، فهم لم يشاركوا في القرار ولَم يعرفوا تفاصيله، لكنهم مطالبون بالدفاع عنه، في الفترات الأخيرة امتد الدفاع والتبرير إلى كل مَن تحالف مع الجماعة. كنت واحداً من هؤلاء، وكان الشخص، على إخلاصه وصفائه، تجده يبرر لقرار عدم خوض الانتخابات الرئاسية، وكذا هو هو ذات الشخص يبرر لقرار الترشح للانتخابات، كان يمكن أن أتفهم أن يبرر هو لأمر ثم يصمت، ويبرر آخر لقرار مناقض، لكن ذلك لم يحدث. حملة وطن نظيف كانت حادثاً عصيباً يوم أن قرر القائمون على الأمر أن يدفعوا بالنجباء والمهندسين والأطباء؛ ليكونوا عمال نظافة بين يوم وليلة، كبديل لأجهزة الدولة المتآمرة، أذكر وقتها كمّ الاعتراضات، ليس على المشاركة، وإنما على الطرق المتبعة في مواجهة مشكلات النظام الوليد. هذه الروح التبريرية تصاعدت مع الوقت، وأشعلها الهجوم المتواصل من أذرع الانقلاب، وقتلت مع الوقت أي محاولة للتفكير المستقل، ففي بعض الأحيان كان يتهم مَنْ يفكر وحده بأنه يشق الصف، أو أنه طابور خامس. لدينا خُطة وجاء الانقلاب فكسر أوهاماً كثيرة، عن شخصيات ادَّعت أنها تعرف كل شيء، وترى ما لم نكُن نراه، وتحيط بكل المعلومات، فعشرات القصص نُقلت إليهم والتنبيهات من الداخل والخارج عن انقلاب وشيك في الطريق، ولَم يجب أحد حتى الآن بشكل واضح عن سبب عدم التعامل بجدية مع هذه التحذيرات. فكما كشف الانقلاب عن دموية العسكر، وزيف بعض دعاة الليبرالية والمدنية، ونفاق بعض دعاة السلفية، كشف أيضاً عن رهان الصف على القيادة الخطأ. الغريب أنه بعد أيام عادت موجات التبرير، وسمعنا من يقول حتى لو كانت القيادة تعرف إنه فيه انقلاب كان ممكن يعملوا إيه؟؟!، وتناسوا أنهم هم المسؤولون عن الإجابة على هذا السؤال، وليس أي أحد آخر. يروي صديق أنه عقب الانقلاب خرجت تظاهرة حاشدة في محافظته، وقرر المكتب الإداري للمحافظة الاعتصام في أكبر ميدان للمحافظة، وأن الأمن انكسر أمامهم، بعد قليل عاد الأمن مدعوماً بالبلطجية وراح يضرب بالرصاص الحي على المعتصمين، فما لبث أن أرسلت العائلات بأسلحة للمعتصمين ليدافعوا عن أنفسهم، فأمر القائمون على الاعتصام بإرجاع الأسلحة، إلا أنهم لم يجرؤوا على أن يقرروا فض الاعتصام، وتركوا الحاضرين للموت. آخر يروي: كنّا نتظاهر في محمد محمود كمجموعة من شباب الإخوان، فجاء ممثل للجماعة، وقال إنه يدعم مطالَبهم، لكن فرصة تاريخية تلوح لدخول البرلمان، وطالبهم بالعودة لبيوتهم، فطردوه. ثالث يتساءل: أين الخطة التي وُعدنا بها منذ ثورة يناير/كانون الثاني؟ وأين خطة إسقاط الانقلاب التي ما خلا حديث أو لقاء تلفزيوني لمسؤول في الإخوان إلا وأشار إلى أنه في طور الإعداد؟ ولماذا كنا نتحلى بطاعة زائدة في أمور تتصادم في بعض الأحيان مع العقل والمنطق؟! الشريك والشركاء قبل عدة شهور كان نائب المرشد العام للإخوان إبراهيم منير في ندوة ووُجهت له عدة أسئلة عن الفشل والأخطاء التي وقعت فيها الجماعة، فأنكرها، لكن المحاور ظل يضغط أكثر من مرة، فرد الدكتور إبراهيم بأن أي قرار كان يؤخذ بالشورى، وإذا كان هناك خطأ فيتحمله الجميع، يتساوى في ذلك الفرد والقيادة. لكن أمراً تناساه الرجل أن الذين فوَّضوا أنفسهم بالتفكير يوماً، لن يتساوى مع من أُوكل إليهم التنفيذ فقط. عشرات الحكايات تبرز كيف أبعدنا المنطق من طريقنا، ووضعنا على عقولنا موانع للتفكير، وتفويض غيرنا به، وتوجيه ملكات العقول نحو التبرير واختراع الحجج، دون أن نقول بوضوح إن ثمة خطأ ويجب إصلاحه. شركاء الذنب لا يزالون حاضرين في كل مكان يبررون ويدافع بعضهم عن قناعة، وحزمة من مصالح، وفريق ثالث عن حميّة.. يوماً ما ستتحرر العقول، وتنحاز للمعلومة الصحيحة والتفكير السليم لا للأشخاص أو الجماعات، وتكتب لنفسها توبة من ذنب لم تقصده.